الحصوة التي أودت بصاحبها

‏  9 دقائق للقراءة        1701    كلمة

في ليلة باردة من شهر أكتوبر، كان علي أحمد مقبل الضبيبي (42 عامًا) يتلوّى من ألم لا يُطاق أسفل خاصرته، داهمه مع تيارِ هواءٍ بارد بدأ يلتفّ في أكاليل لولبية حول بلدة “الصلبة” الجبيلة بمحافظة “ريمة”. وقتئذٍ، لم يكن أمام ذويه حيلة لإسعافه عدا نقله إلى مدينة باجل المحاذية لمحافظة ريمة من جهة الغرب والتابعة إدارياً لمحافظة الحديدة، حيث مستشفى “المختار” الذي ما يزال مقصدًا لعدد غفير من المرضى الذين يأتون من مناطق شتى في ريمة ممن تعذَّر عليهم العلاج في مناطقهم التي لا وجود فيها للمستشفيات أو المرافق الطبية المجهزة.

في المستشفى، غداة وصول “علي” وشقيقه “عبده”، تبين بعد الكشف بالأشعة أنه يعاني من حصوة في الحالب تستدعي إجراء عملية جراحية، هكذا قال الطبيب “مختار الشميري” الذي أجرى له عمليةً ظنَّها “علي” ستعيد إليه عافيته، لكن ما لبث أن شعر بالخيبة بعد حين من خروجه من المستشفى حين ظهرت عليه مضاعفات وتقيّح في مكان العملية مع ألم شديد كاد يجهز عليه.. تحت وطأة الألم، لم يجد بُدًّا من العودة مجددًا إلى ذات المستشفى وإلى ذات الطبيب دون أن يدور في ذهنه أن ذلك الطبيب قد عبث بجسده على نحوٍ سيودي بحياته لاحقًا.

ليست هذه سوى بداية النهاية للجزء المثير والمؤلم من القصة التي وثّقنا جميع تفاصيلها، في إطار تحقيقنا حول حالات الوفيات الناجمة عن الإهمال الطبي التي تمر دون حساب ولا نكير.

خطأ قاتل

يسترجع عبده مقبل (شقيق المتوفى) ما حدث وهو يمسح دموعه: “كان علي احمد (اسم المتوفى) عنده حصوة في الحالب، بعدها اسعفناه إلى مستشفى المختار في باجل، وعملوا له عملية لإخراج الحصوة. ظل يومين بعد العملية، ورجع إلى البيت.. لكن زاد مرضه وألمه في مكان العملية”.

“رجَّعناه إلى الدكتور مختار الشميري، قال له روح سوي اشعة بالصبغة. سوينا أشعة والاخصائي حق الأشعة قال لنا فيه جسم غريب يظهر في الأشعة. أخذنا الأشعة ورجعنا للدكتور. وحين شاف الأشعة قال لنا ولا فيها شيء.. عنده بس التواء في الحالب وبنركب له دعَّامة، وخلاص.. لكن روِّح البيت ويستخدم العلاج هذا”.

يضيف بصوت مخنوق يخفي قدرًا من الحَنَق: كان الدكتور مصرًا على رأيه، رغم أن بعض الأطباء بالمستشفى أكدوا على وجود جسم غريب يظهر في الأشعة، لكنه كان يرد عليهم بانزعاج “ولا في شيء.. أنا أدرى منكم” (أنا أعلم منكم).

يستطرد عبده: “جلسنا بباجل حوالي اسبوعين ولكن كانت حالته تزداد سوءًا. سافرنا بعدها إلى صنعاء ودخلناه مستشفى عبد القادر المتوكل، حيث عملنا هناك الفحوصات والاجراءات وعملوا عملية وخرجوا ما يقارب ربع كيلو شاش، وهذا ما جعلنا نصاب بالصدمة، لكن للأسف توفى بعدها بأيام من جراء تداعيات لها علاقة بما حدث، حسب ما أكد لنا المختصون”. وقد حصلنا في ريمة بوست على مقطع فيديو يبيّن حجم الكتلة الشاش التي أخرجت من حالب المريض في مستشفى عبدالقادر المتوكل بصنعاء.

 

ضحايا بالجملة

حالة “علي أحمد مقبل” لها نظائر يصعب حصرها، في الوقت الذي تحولت فيه الأخطاء الطبية في اليمن إلى ظاهرة حقيقية، رغم ذلك لا يوجد _حتى الآن على الأقل_ إحصائية رسمية أو شبه رسمية عن متوسط ضحايا التفريط الطبي، ما خلا بعض التقارير الطبية التي تؤكد أن ضحايا الأخطاء الطبية في اليمن يأتي في المرتبة الثالثة بعد ضحايا الأوبئة والحرب.

 

حيث تسبب الإهمال وقلة الكفاءة الطبية في عديد الحالات إلى الوفاة، وفي أحسن الأحوال إلى إعاقات مزمنة أو فقدان أحد الحواس، كما حدث مع السيدة “م . د” (34 عامًا) التي أصيبت في سقوط حجر أصاب ناصية راسها من الجهة اليسرى، وكسر ما يقابله من عظمة الجمجمة.. فقدت بعده الوعي لأيام، ولم تفق إلا في حجرة العناية المشددة بأحد المستشفيات المشهورة بصنعاء. لكنَّ شهرة المستشفى والمبلغ الفلكي الذي دفعه والدها نظير علاجها، لم يدفع عنها قَدَرَ الوقوع ضحية للإهمال الطبي، عشية أُجرِيت لها عملية جراحية اهتمت برتق الجزء الخارجي من الرأس دون تدارك الضرر الذي تعرضت له الجمجمة، ما سبب موت تدريجي لجزء من خلايا الدماغ في مكان ومحيط الإصابة، وخروج عينها اليسرى عن الخدمة بعد أن فقدت الإبصار بها.

 

تقول “م . د” وهي تستعرض بعض صورها: “بعد شهر تقريبًا من خروجي من المستشفى، لاحظ الجميع تغير صوتي تدريجيًا، وأصابني نحول شديد تغيرت معه ملامحي، حتى صرت لا أشبهني، وفقدت القدرة على الابصار بعيني اليسرى، بعدها سافرنا للعلاج في مصر، وهناك كان الدكتور الذي أعاد لي العملية مصعوقًا من الكيفية التي تعامل بها الطبيب السابق في اليمن مع الإصابة، وأوصانا بمقاضاته ريثما نعود…”.

“لحسن الحظ تم تدارك الخلل الذي أصاب دماغي بعد أن كان من المؤكد أن يستفحل ويقضي على حياتي، لكني أصبحت مجبرة على استخدام علاج ملكف 3 مرات في اليوم مدى الحياة، والتكيف على العيش بعين واحدة”.

تبرير الخطأ

استغرق الأمر وقتًا لا بأس به حتى حصلنا على ردّ الدكتور مختار الشميري الذي أجرى العملية للمريض المتوفى بمستشفى المختار بمدينة باجل. كان ردُّه لجوجًا ومتناقضا أحيانا، ولا يتضمن إجابة حاسمة، خصوصًا في جزئية نفيه وجود جسم غريب في الأشعة التي أجراها المريض عشية عودته إلى المستشفى يشكو من مضاعفات سلبية جرّاء العملية، التي زعم أنها مجرد التواء في الحالب، رغم تأكيد مختص الأشعة وجود جسم غريب في جسم المريض، غير أنه برر: “حكاية الشاش وكذا، هذا شيء وارد في العالم كله ولكن ما يكون سبب في الوفاة.. الشاش اللي وجده في جسم المتوفي ما أقدر أقولك نعم أو لا”.

واستدرك: “لكن ما دام مستشفى المتوكل كتبوا هذا التقرير هكذا فهم يتحملوا وزرهم.. سواء كانوا صادقين او كاذبين.. أنا مالي دخل بتقرير المتوكل. سبحان الله أشياء زي هذه هنا قد تحصل ولا أقدر أنكر.. مش عارف إذا كانوا حصلوا شاش أو لا”.

يضيف الدكتور الشميري _ بعد أن أكّد بنبرةٍ حانقة “أن التشهير بالناس ما ينفع” موجهًا حديثه لمعد التحقيق_: “انما في كل الأحوال إذا فيه قطعة شاش ما بتكون سبب الوفاة. احنا قد عملنا عدة عمليات كثيرة للناس عندنا هنا.. وكان عندهم شاش بسبب عمليات عملوها في أماكن مختلفة ونشيلها. ولا يكون وفاة ولا شيء. وإذا قدَّر الله وكان هناك شيء وحصل، ما بيكون سبب للوفاة”، حد قوله.

 

سبب غير مباشر..وإهمال مُتعمّد

طبيًا، يستبعد المختصون أن وجود مثل ذلك الخطأ الطبي يمكن أن يكون سببًا مباشرًا للوفاة، إنما سببًا غير مباشر، لاعتبارات تتعلق بالمضاعفات التي نجمت عنه بعد ذلك، حيث يلفت الدكتور عبد الوهاب عزالدين _مدير الشؤون الطبية والفنية بمستشفى عبد القادر المتوكل ودكتور الباطنية الذي عالج “علي احمد”_ إلى أن وضع الشاش في جسد المريض لم يكن محض نسيان، بل ربما كان المريض يعاني من نزيف حاد ما اضطر القائمون بالعملية إلى حشو الحالب بالشاش لوقف النزيف، وهو خطأ لا يفترض أن يقوم به دكتور يشعر بالمسؤولية تجاه مرضاه”.

 

ويضيف: “استقرت حالة المريض بعد العملية، وغادر المستشفى، بعدها عاد للمستشفى نتيجة اصابته بحمى شديدة وضيق تنفس، وبعد الكشف عليه، وعمل الفحوصات اللازمة تبين أنه أصيب بـ(جلطة رئوية حادة) دخل على إثرها العناية المشددة، لكن سرعان ما توفي”.

يتابع الدكتور عبد الوهاب عز الدين موضحًا: “الجلطة الرئوية الحادة قد تأتي نتيجة بقاء المريض لفترة لعدة أيام على ظهره دون أن يقف، وحين يقف على قدميه فجأة، يصاب بجلطة رئوية، وهناك كثير من الحالات حدث معها الشيء نفسه”. وهو ما يؤكده أيضا التقرير الطبي الخاص بحالة “المتوفى علي أحمد مقبل” الصادر عن مستشفى الدكتور عبدالقادر المتوكل بتاريخ 2019/12/11م.

تسيُّب قانوني

عادةً، لا تجد قضايا الإهمال الطبي في اليمن طريقها إلى القضاء، إمَّا لجهل ذوي الضحايا الذين يتقبلون نتائج ما ينجم عن الأخطاء الطبية على أنه “قضاء وقدر”، وإمَّا تحاشيًا للإجراءات البيروقراطية الطويلة وعلى رأسها اشتراط القانون ضرورة تقديم القضية إلى المجلس الطبي اليمني قبل رفعها إلى القضاء، الأمر الذي يؤدي إلى تأخير وتمييع القضايا والتلاعب بها. فضلًا عن ذلك، فالتشريعات الموجودة حاليًا لا تتضمن نصوصاً قانونية تفرض على الأطباء والمستشفيات التأمين ضد الأخطاء الطبية التي تتكرر بشكل لافت دون عقوباتٍ تَحُدُّ أو تقلل حدوثها.

لم تسكت عائلة “علي أحمد مقبل” عن حقها في المطالبة بالتحقيق حول الخطأ الذي ارتكبه مستشفى المختار بباجل، فقد قامت بتوكيل الشيخ عبدالله الضبيبي _وهو أحد مشائخ المنطقة_ لمتابعة القضية في الجهات المختصة، ليقوم بتقديم شكوى إلى وزارة الصحة العامة.

يقول الشيخ عبد الله محمد الضبيبي: “يومذاك التقيت مع الأخ وزير الصحة، الدكتور طه المتوكل، الذي أبدى كل اهتمامه واستعداده لمتابعة هذا الموضوع، وأعطى توجيهاته الصريحة والشاملة إلى المجلس الطبي الأعلى ومدير مكتب الصحة بالحديدة لرفع تقرير عن هذا المستشفى الذي بباجل”. غير أنه وبحسب تواصلنا مع المستشفى ممثلا بالدكتور مختار الشميري لم تصل أي لجان إذ أكد لنا أنه حتى يوم نشر التحقيق لم تنزل إلى المستشفى أية لجنة من مكتب الصحة بالحديدة.

وفي ذات الوقت، يُقِرّ الشيخ الضبيبي أنه حتى الآن لم يلمس أثرًا جديًا لتلك التوجيهات والوعود بإنصاف الضحية (علي أحمد) وكثيرون سواه قضوا في ظروفٍ مشابهة، حيث يستطرد قائلا: “هذه جرائم تتخذ ضد هذا الإنسان الذي يذهب للمستشفى لكي يجد الرحمة، لكنة يخرج من المستشفى وهو مليءٌ بالعذاب”.

ويختم الضبيبي “نتمنى أن يجد مثل هؤلاء الدكاترة المستهترين ومثل هؤلاء الذين يبتاعون بأجسام هؤلاء المرضى العقاب الرادع والجازم لكي يحافظوا على ارواح هؤلاء البشر ولكي يؤدوا أمانتهم الطبية بكل مسؤولية..”.

وإلى حين تجد العدالة طريقها إلى “الدكاترة المستهترين”، ثمة متسع لمزيد من الخطأ، ومزيد من الموت.