مهدي الحيدري.. شاعر وأديب جمع بين خيال الشعر وموضوعية القانون

الأديب والشاعر مهدي الحميري
‏  9 دقائق للقراءة        1700    كلمة

أيها المَتنُ همَّشتْني الثواني

بعدكَ اليوم

وانزوتْ فيكَ ذاتي

صورةُ الموتِ ليتَها فاجأتْني

قبلَ هذا وأعلنتْ عن وفاتي

يا صديقي هل مِتَّ؟

ما زالَ قلبي

باسمِ مهدي يفيضُ بالذكرياتِ

أيها الكونُ ضيّقٌ أنتَ جداً

بعدَ مهدي فقدتُ حتى حياتي

يا لِحُزنِ البلادِ يا لانكِساري

أينَ أمضي والحُزنُ ملءُ الجِهاتِ

أنتَ حيٌّ يا نبضَ روحٍ تَبقَّتْ

في ضلوعي لكي أُتِمَّ صلاتي

صوتُ مهدي يَدبُّ؛

ماذا سأحكي

عن حبيبٍ

قد كانَ في الأصلِ ذاتي

يا إلهي أكْرِمْهُ عندكَ

ضيفاً

مُشرِقَ الوجهِ

فيهِ أسمى السماتِ

بهذه القصيدة الحزينة، رثا الشاعر ياسين البكالي، صديقه الأديب والشاعر المحامي مهدي الحيدري، الذي فارق الحياة، يوم 15 يونيو/حزيران 2022م في مدينة مارب، بعد معاناة مع مرض السرطان، وسط ذهول أهله وذويه ومحبيه، مخلفًا موجة حزن عمّت الساحة الأدبية والثقافية اليمنية التي كان فيها شاعرًا لا يشق له غبار، وأديبًا وروائيًا عتيدًا، رفد المكتبة اليمنية والعربية بأكثر من ثمانية مؤلفات، تنوّعت بين الشعر والرواية.

امتاز الشاعر مهدي الحيدري، بشخصية اجتماعية جمعت بين الإبداع والتواضع والبساطة وحسن المعشر، فما عرفه شخص إلا وأثنى عليه وعلى مسيرته الأدبية، وهو ما تجلى واضحًت في عبارا المراثي والتعازي بعد وفاته، إذ كتبت فيه مئات المراثي والتعازي التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي، وكلها تستذكر مناقبه وتشيد بشخصيته وأخلاقه.

في رثائه كتب الباحث والمؤرخ حيدر علي ناجي: حين سمعت عن وفاة الشاعر والأديب مهدي الحيدري، تذكرت كل محبيه على الفور، فقد كان – رحمه الله – ودودا وصديقا للجميع. اختلفنا في وقت من الأوقات حزبيًا أو هكذا صنفونا، ولكني لم أشعر في يوم من الأيام بوجود هذا الخلاف، فقد كان كما أنا، مترفعًا عن المماحكات الحزبية والخلافات الضيقة التي لم تورث لليمن إلا الانقسامات.

وأضاف في تعزيته التي نشرها في صفحته على موقع التواصل “فيسبوك”، لقد كان الحيدري أبرز شعراء ريمة وأغزرهم انتاجًا وجودةً، وكان يجمع إلى جانب موهبة الشعر، موهبة الرواية، وفوق ذلك، فهو قانوني وقاضي من الدرجة الأولى، وكان قبل كل ذلك يعمل في التربية والتعليم، فقدت ريمة والثقافة أحد أقطاب الحرف.

علمٌ وعمل

عام 1970م، كانت الساحة الأدبية في اليمن على موعد مع شخصية موهوبة جديدة، حيث ولد آنذاك الشاعر والأديب والمحامي مهدي عبده الحيدري في قرية بني الشماخ، عزلة الضبارة، مديرية كسمة، وفيها تربى وترعرع في كنف والده، عبده مهدي الحيدري، الذي كان فقيهًا وشخصية ذو مكانة اجتماعية في منطقة الضبارة، فشجعه على الدراسة والالتحاق بالمدرسة.

بدأ الشاعر مهدي الحيدري دراسته الأساسية في مدرسة الضبارة عام 1982م، وانتقال بعد ذلك إلى محافظة صنعاء (أمانة العاصمة)، لإتمام المرحلتين الإعدادية والثانوية في معهد الشوكاني لإعداد المعلمين، وتخرج منه عام 1987م. حينها عاد الحيدري إلى منطقته لممارسة التدريس في مركز الإيمان العلمي، وحصل على درجته الوظيفية في التربية والتعليم في أواخر عام 1991م.

لم يتوقف الحيدري عن إثراء حياته العلمية والعملية بشكل مستمر، حيث التحق بكلية الشريعة والقانون بجامعة العلوم والتكنولوجيا عام منتصف التسعينات، وحصل منها على الليسانس في الشريعة والقانون عام 1998م. وانخرط في العمل في مجال المحاماة، وهو العمل الذي أشغله إلى حد ما، عن المواصلة بوتيرة عالية في مسيرته الأدبية والشعرية.

ظل الحيدري يعمل في مجال المحاماة والقضاء، إلى جانب نشاطه في الساحة الثقافية والأدب؛ حتى تم تعيينه مديرًا عامًا لمكتب الثقافة بمحافظة ريمة، عام 2011م. عمل خلالها على إبراز الدور الثقافي لأبناء ريمة وشهدت الساحة الثقافية حينها اهتمامًا ملحوظًا، حيث أقيم خلال إدارته، الملتقى الثقافي الأول لأدباء وكتاب ومبدعي محافظة ريمة في يوليو 2012م، ضم كوكبة من مبدعي المحافظة وقد لاقى تفاعلاً كبيرًا.

“طيب الأخلاق وخفيف الظل”

مواقف كثيرة عُرف خلالها الحيدري بسعة صدره وطيب أخلاقه ونزاهة فكره، وصدق سريرته مع من حوله، حيث يقول فيه الشاعر البكالي، من أصدقاء الفقيد “الحيدري كان رجلًا، حين تعيش برفقته، لا تملّ معاشرته، سواء في طيبته، في تعامله، في هدوئه. رجل كريم وطيب وهادئ، يكتنز الكثير من الصفات الإنسانية. في كل أخلاقه، هو رجل نادر”.

ويستذكر البكالي أحد المواقف النبيلة التي عاشها مع الشاعر الحيدري: لم أنس أنه حين تم ترشيحي للمشاركة في برنامج أمير الشعراء في أبو ظبي، كان مهدي الحيدري هو أكثر من دعمني في تلك الرحلة ووفر لي كل ما يمكن أن أحتاجه للسفر، لأني كموظف حكومي امكانياتي ضعيفة. وعندما حاولت أرد له جميل صنعه معي، رفض أن يأخذ مني شيء. هو رجل يحب أن يراك كما أنت وبوضع جيد.

وفي وصف مواقف الحيدري كتب ماجد الطياشي، إعلامي، على حائطه على “فيسبوك”: “صعبٌ على المرء ان يكتب في وداع من يحب، أن يرثي صديقاً كان له بمثابة أب، أن يكتب عن شخص حاز كل الصفات. اليوم أكتب في وداع صديق وأخ ولدته الأيام والمواقف والأحداث، القاضي والكاتب والاديب والمحامي والغنسان الشاعر والمثقف مهدي الحيدري“.

ويضيف: “الرجل الذي جمعتني به أيام وليال وسفر وسكن، كان دائم الابتسامة، خفيف كالنسمة لطيف الحديث، يُشعر كل من حوله بالسعادة، منذ أكثر من عامين وهو يصارع المرض الذي واجهه برباطة جأش وقوة، لكنه هزمه في المعركة الاخيرة، أعزى نفسي وعائلته وأولاده، أعزي ريمة الارض والإنسان، أعزي الثقافة والأدب برحيل عمود من أعمدة الشعر والرواية والقصة”.

عبقرية الشاعر وحنكة المحامي

بدأ الشاعر الحيدري، في كتابة الشعر مبكرًا، لكن لم يخرج مولوده الشعري الأول للحياة ديوان “بين إيقاد الشموع ولعن الظلام” إلا عام 1997م، وهو ديوان شعر سياسي، يحمل في طياته قصائد نارية من الأدب الثوري، كتبها بفكر الثائر وبوعي السياسي والمحامي المحنك، وهو ما تطرق إليه الكاتب ثابت الأحمدي، في مقالة بعنوان الغضب الصامت، “الأدب الثوري للشاعر الحيدري” نشرت عام 2016م.

وقال الكاتب الأحمدي في الشاعر الحيدري: شاعرنا مُجيدٌ للغة ببراعة وإتقان؛ حيث تبدو متبرجة أمام جمرية غضب الاستبصار. يهندس معانيها، ويرسم صورها.. ومُجيد ـ أيضًا ـ لاختيار الكلمات والصور. يُفكّر ثم يتكلم بحصافة هامسة.. لا عجب، تلك صفة المحامين ورجالات القضاء.

وأضاف الأحمدي في مقاله: لو واصل الشاعر الحيدري مسيرته على ذات النهج الذي ابتدأ به، لتسلم الراية “المطريَّة” بثقة واقتدار، ليس يمنيا فحسب؛ بل وعربيا؛ إنما جنح إلى مجال آخر، منشغلا بهمومه الخاصة كأي مبدع يمني. شعر الحيدري ثوري “ملحمي” بلغة أفلاطون” وهو ليس من الشعر الذي يقدم العلاج فحسب؛ بل ومما يقدم المتعة أيضا وفقا لأرسطو. أظنكم قرأتم عن فكرة التطهير الأرسطية”

وبالرغم من انشغاله بالمحاماة والقضاء، استطاع الشاعر الحيدري السير بثبات في الساحة الأدبية والثقافية، وأثرى المكتبة الوطنية والعربية بمؤلفات عدة، هي رواية “الكهف المهجور“، صدرت عام 2003م، “تفاصيل وردة” مجموعة سردية، 2004م، ديوان “ألف لا شيء له” صدر عن وزارة الثقافة عام 2004م، وديوان “الخيّرون” (ديوان اليتامي)، 2008م، ديوان “الطوفان يوم تحت التخصيب” 2009م، وديوان “وحده يموت واقفًا” (ديوان المقاومة”، 2009م، وكتاب فلسلفة الأخلاق (بعض الحقيقة، بعض الوفاء)، 2010م.

بإبداع وقريحة الشاعر ومهنية ودقة المحامي، جمع الحيدري بين الشعر والمحاماة، حين ألّف كتاب “متون الجوامع القضائية في القواعد الفقهية والمبادئ القضائية والعدلية وقانون المرافعات والتنفيذ المدني اليمني”، الذي أصدر عام 2010م، وقد لخص الكتاب النظمي مبادئ العدالة والمبادئ القضائية مقرونة بالقواعد الفقهية وضوابطها في متن واحد على مستوى العالم الإسلامي، إضافة إلى القواعد الخاصة بقانون المرافعات والتنفيذ المدني.

وتضمن الكتاب ثلاث مجموعات، الأولى شملت متن القواعد والضوابط الفقهية، وتضمنت المجموعة الثانية متن المبادئ والقواعد القضائية والعدلية، وتناولت المجموعة الثالثة متن القواعد العامة لقانون المرافعات والتنفيذ المدني اليمني. وقد وصف فضيلة العلامة القاضي، محمد بن اسماعيل العمراني، هذا الكتاب بأنه “كتاب يكتب بماء الذهب.. وأنه لا يستغني من الاستفادة منه القاضي أو المحامي أو العالم أو طالب العلم في الجامعات والمعاهد القضائية”.

عضوًا فاعلا في الساحة الثقافية

خلال حياته شارك الشاعر والمحامي مهدي الحيدري في الكثير المهرجانات الأدبية المحلية والعربية كملتقى الشعراء الشباب العرب ومهرجان أحفاد البردوني ومهرجان الأقصى ومهرجان الرواية الرابع بصنعاء.. كما حاز على العديد من الشهادات والجوائز، أبرزها جائزة رئيس الجمهورية في الشعر 2005م، ودرع صنعاء عاصمة الثقافة 2004م، درع ملتقى الشعراء الشباب العرب 2005م، درع المهرجان الرابع للقصة والرواية 2007م، درع جمعية الكوثر البحرينية 2009م، إضافة إلى الكثير من الشهادات التقديرية.

وبالرغم من انشغاله في المجال التربوي والثقافي ومن ثم المحاماة والقضاء، إلا أنه ظل عنصرًا فاعلاً في المكونات النقابية والاتحادات، بدءً من عضويته الطلابية بمعهد الشوكاني، وحتى عضويته في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، ونقابة المحاميين اليمنيين، نقابة المعلمين، وعضوية رابطة الأدب الإسلامي، إلى جانب ضمّه في موسوعة الأعلام اليمنيين الصادرة في القاهرة، ومعجم البابطين للشعراء المعاصرين العرب بدولة الكويت.

ظل اهتمام الحيدري بالساحة الثقافية بريمة دائمًا واستمر على رأس إدارة مكتب الثقافة حتى عام 2015م، لكن مع اندلاع الحرب والصراع، غادر وواصل عمله في المجال القضائي لدى حكومة عدن (الحكومة المعترف بها دوليًا)، وهناك عمل كعضو مكتب محامي النيابات العسكرية، ومن ثم رئيسًا لنيابة استئناف المنطقة العسكرية الثالثة في مدينة مارب، وفيها بقي حتى وافته المنية، تاركًا خلفه، زوجتين، و12 من الأولاد (10 إناث، و2 ذكور)، وإرثًا ثقافيًا كبيرًا زاخرًا بالشعر والأدب.