المعلم “حسن السيّد”: رحلةُ حب ووفاء عابرة للحدود

‏  11 دقائق للقراءة        2037    كلمة

اهتمامه اللافت – من خلال صفحته على موقع التواصل “فيسبوك” – بكل ما يرتبط بريمة وخصوصًا مديرية الجعفرية، نشره صور مناظرها الطبيعية الخلابة، تقديمه التهاني لمواطنيها عند أفراحهم، وكلمات العزاء والمواساة في مآتمهم.. كل تلك الأمور تدفعك منذ اللحظة الأولى للاعتقاد بأنه مواطن يمني لكنه مستقرّ في مصر منذ عدّة سنوات.

 

تُدلف مسرعًا لفتح صفحته الشخصية فتجد عكس ما ظننته، فهو بالفعل مواطن مصري ويعيش تحديدًا في الدقهلية بالمنصورة في جمهورية مصر العربية. بالتأكيد ستشعر بالتساؤل والاستغراب في آنٍ واحد. ثمة ارتباط وثيق يدفع الرجل للاهتمام بالجعفرية خصوصًا منطقة اللمهيل وما حولها من القرى، كما لو أنها قرى مصرية نشأ وترعرع فيها، بل وتشغل حيزًا واسعًا في ذاكرته الدافئة.

 

“يسعدني أن أقدم نفسى لأهل اليمن عامة ولأهل ريمة خاصة” يتحدث حسن السيد حسين سالم، 61 عامًا، أستاذ لغة انجليزية مصري، ليذيب كل التساؤلات حول حبه واهتمامه العابر للحدود.. “قضيتُ في اليمن أربعة أعوام، درّست لمدة عامين في مدرسة الفتح الثانوية باللمهيل بالجعفرية، وعامين في مدرسة الصحابة بالسودة بمديرية أرحب بصنعاء”.

 

شغف التجربة

 

عام 2001م، كانت بداية التجربة الفريدة التي خاضها الأستاذ حسن، في التدريس باليمن، ضمن عشرات الأساتذة المصريين، الذين استقدمتهم الحكومة اليمنية آنذاك، لتغطية النقص الكبير الحاصل في الكوادر التعليمية المتخصصة، في الكثير من المدارس على مستوى اليمن.

 

بعد أيام قليلة من وصوله صنعاء، لم يكن يعرف الأستاذ حسن، أي مدرسة سيتم توزيعه عليها، حيث كانت وزارة التربية والتعليم تقوم بتوزيع المعلمين المصريين على المدارس وفقًا للاحتياج، دونما أي اعتبارات أخرى. لذا تقبّل الأستاذ حسن قرار التوزيع وهو متحمسٌ للبدء في ممارسة مهمته الإنسانية التي قطع من أجلها آلاف الكيلومترات.

 

يروي: “تم توزيعي على منطقة الجعفرية مدرسة الفتح الثانوية باللمهيل، ولا أدري هل هي في الشرق أم في الغرب؟ قريبة أم بعيدة؟ ساحلية أم جبلية؟ سألت عن المكان واتجهت إلى باب اليمن، ومن هناك ركبت سيارة إلى مدينة الحديدة، ومن ثم إلى مدينة بيت الفقيه”.

 

رحلةٌ لا تُنسى

 

كان الوقت يشير إلى السادسة مساءً، حين وقف حسن السيد في مدينة بيت الفقيه، وحرارة الجو تلفح وجهه، لكن لم يأبه حينها لحرارة الطقس، إذ أن الترقب عن وجهته القادمة هو شغله الشاغل. لم يمر وقتًا طويلاً، حتى حضرت السيارة “الشاص” ذات الدفع الرباعي التي سيسافر معها نحو وجهته القادمة، مديرية الجعفرية.

 

انطلقت السيارة وإضاءتها الحمراء الباهتة تشق ظلام الليل الحالك بشكل مستقيم، يُظهر ملامح الدرب الذي تسير فيه. لا أدري إلى أي مكان أسير؟ ومتى سنصل وأين سأقضي ليلتي؟ عند من ومع من؟ يتساءل حسن السيد، وهو يجلس في مؤخرة السيارة وسط الأغراض والشنط والمواد الاستهلاكية (أكياس دقيق، سكر، مادة كيروسين..)، ثم لا يفتأ أن يردد في نفسه “يبدو أنها ليلة صعبة وذكرى لن أنساها”.

 

“بدأت رحلة المعاناة مع برك المياه والمنخفضات والهبوط والصعود . استمر السير وطال الليل وزاد انتشار الظلام واختفت المعالم. زادت الرهبة واشتد الخوف في نفسي، وبدأت أشعر بالتعب البدني ولكن ما هدأ من روعي فوق السيارة، هو وجود الزميل منصور قايد، حيث يعمل في نفس المدرسة التي سأصل إليها، ، هذا الأمر جعلني مطمئنًا”.

 

“استمر السير وأنا أنظر حولي فلا أرى إلا الظلام ونور السيارة يكشف الطريق وما هو بطريق بالمعنى الصحيح.. مجرد أحجار مرصوفة ووعرة يتناوب الركّاب بشكل مستمر، على إصلاحها وإزاحتها من أمام السيارة. استمر السير وأنا مسلّم الأمر لله”.

 

ما إن وصلت السيارة سوق علوجة (أطراف مديرية الجعفرية) حتى تنفس حسن السيد، الصعداء، ظنًا منه أن الرحلة انتهت هناك، غير أن سوق علوجة كان ترانزيت فقط لتناول الطعام والشراب، استعدادًا لمواصلة المسير في الجزء الأخطر من الطريق الممتدة عبر أودية ومنحدرات وجبال شاهقة خطرة.

 

استأنف السائق المسير طلوعًا في الطريق الجبلي باتجاه منطقة اللمهيل، كانت السيارة تتأرجح يمينًا ويسارًا في المنحدرات، وما بين لحظة وأخرى ينزل الركّاب لإزاحة الأحجار والصخور من أمامها، حتى وصل الجميع إلى منطقة “المجنّة”، وذهب كل واحد في سبيله، فيما ما يزال الليل مسدلاً أستاره على المنطقة.

 

نزل منصور قايد من السيارة، ليواصل السير على قدميه باتجاه المنزل الواقع في منطقة تبعد عن طريق السيارة ما يقارب اثنين كيلو متر. شعر حسن السيد، أنه فقد الشخص الذي علّق عليه الأمل في تلك الليلة، بالرغم من أن منصور قايد اعتذر له وأخبره أن الطريق صعبة ولن يستطيع السير فيها ليلاً.. “قال لي لا يمكن أن تصل إلى بيتي معي لأن الطريق وعر وصعب وانا أخاف عليك. وبالفعل تبين صدق ما قاله عندما زرته فيما بعد”.

 

ترك حسن السيد، أمتعة السفر خاصته فوق السيارة، ومضى راجلاً برفقة سائقها، باتجاه منزل محمد عبدالله ثابت بقرية اللمهيل، حيث سيبيت هناك حتى الصباح، بحسب تعليمات السائق. استقبله صاحب المنزل بحفاوة، وأدخله إلى ديوان الضيوف. بدا كل شيء غريب حول الضيف الآتي من مكان بعيد إلى قرية نائية لا يعرف عنها شيء، غير أن إرهاق السفر لم يترك له فرصة للتأمل والتفكير فيما حوله.

 

ما إن أذن الفجر حتى تيقّظ حسن السيد، للصلاة، ليجلس بعدها منتظرًا بزوغ ضوء الصباح ليزيح عن كاهله ثقل التساؤلات حول طبيعة المنطقة التي وصل إليها تحت جنح الظلام.. “بدأ نور الصباح يظهر وأنا أقفز من نافذة إلى أخرى لأرى ما حولي. فإذا بي أرى الجبال تحيط بي من كل ناحية، حينها أٌصبت بالذهول وتساءلت كيف سأعيش هنا؟ وأسلمت الأمر لله. فأتى بعدها المرحوم محمد عبدالله ثابت بالإفطار والقهوة اليمنية، وهو يبدي ترحيبه الكبير بي، وهو ما هدأ من روعي”.

 

تعليم تحت الأشجار

 

تجربة جديدة ومختلفة يخوضها الأستاذ حسن السيد، بيئة اجتماعية وثقافية أخرى غير تلك التي اعتادها في مصر، وبيئة تعليمية تفتقر إلى أبسط الامكانات العلمية والتربوية.

تحت الأشجار وعلى الأحجار يجلس الطلاب الريفيون لتعلم اللغة الانجليزية من الأستاذ حسن الذي بذل جهود كبيرة لسد الفجوة بينه وطلابه الذين لا يتقنون حتى حفظ الأحرف الانجليزية، حيث بدأ بتعليمهم من البداية.

 

بخطوات مدروسة مضى الأستاذ حسن لجذب اهتمام الطلاب بمادة اللغة الانجليزية، محاولاً استخدام طرق ووسائل أخرى تساعد في إيصال المعلومة وتتناسب مع مستويات الطلاب. كما أبدى مرونة في التعامل مع الظروف والصعوبات التي واجهته، حيث كان يقوم بتدريس الطلاب أحيانًا في مبنى “الحكومة”، وهو مبنى قديم وأثري، كان يستخدم لتعليم الطلاب، نتيجة عدم وجود فصول دراسية.

 

بجوار مدرسة الفتح في العراء والهواء الطلق، كان يجلس الأستاذ حسن والطلاب من حوله، يتلقون الدروس بكل إنصات. الخزان الحديدي الذي يقع بجوارهم، كان هو السبورة التي يكتب عليها الأستاذ، بعد أن تكيّف مع كل ما حوله.. “تجربة التدريس في مدرسة الفتح بالجعفرية، هي تجربة جديدة في ظروف جديدة، التدريس مختلف والطبيعة مختلفة والمناهج مختلفة”.

الأستاذ حسن السيد برفقة بعض زملائه الأساتذة بمدرسة الفتح بالجعفرية
الأستاذ حسن السيد برفقة بعض زملائه الأساتذة بمدرسة الفتح بالجعفرية

“لكني وجدت نفسى بين زملاء أحببتهم وطلاب عشقتهم. اختلفت طرق التدريس عمّا تعودنا عليها في مصر، حيث الثقافة مختلفة وطرق التفكير مختلفة، غير أني بفضل الله تكيّفت مع الظروف وعشت كأني يمني بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ”.

 

الانصهار في المجتمع

 

لم تمض سوى شهور قليلة حتى شعر الأستاذ حسن، بالألفة وقوة العلاقة التي تربطه بالمجتمع من حوله، بل أصبح واحدًا منهم.. “الحمد لله وجدت نفسي بين إخوة أفاضل وزملاء أعزاء وطلاب مخلصين. كان ارتباطي بالمسجد هو الرباط القوي الذى أوجد الروابط بيني وبين المواطنين فانصهرت بينهم وعشت معهم في كل المناسبات”.

 

في البداية كان حسن السيد يشعر بالخوف والقلق حيال السير على الأقدام في الطرقات الجبلية الوعرة، ويعتبرها من الصعوبات التي تواجهه، لكنها أصبحت فيما بعد تبعث في نفسه مشاعر المتعة، إذ يرى أن السير فيها صعودًا ونزولاً أكسبه تجارب جديدة وصنع له مواقف وذكريات جميلة.. “الحمد لله طبيعتي متفائلا وكل شيء أراه جميلا فكل المواقف التجارب والذكريات كانت طيبة”.

 

بالرغم من انصهار الأستاذ حسن السيد في المجتمع إلا أنه ظل ضيفًا عزيزًا في نظرهم ويجب اكرامه والاحتفاء به بشكل يليق به وبمكانته، في مجتمع يعتبر اكرام الضيف من الأمور التي لا يمكن التفريط بها، حيث أكرموه وأحبوه وأصبحوا يروا وجوده بينهم مهمًا، لكن لم يمض سوى عامان على وجدوده بينهم، حتى جاء أمر نقله من مدرسة الفتح.

الأستاذ حسن السيد وبعض الأساتذة في ضيافة أحد الزملاء
الأستاذ حسن السيد وبعض الأساتذة في ضيافة أحد الزملاء

عامان فقط، الفترة الزمنية التي قضاها الأستاذ حسن السيد، في تدريس الطلاب بمدرسة الفتح الأساسية الثانوية بقرية اللمهيل، بمديرية الجعفرية، لكنه استطاع فيها زيارة الكثير من القرى والمناطق وبناء صداقات متينة، واستلهام العديد من التجارب والمواقف الجميلة التي ظلّت محفورة في ذاكرته حتى الآن.

 

“أحببت الجميع من الكبير إلى الصغير وتكونت بيننا صداقات قوية لا تزال قائمة إلى الآن، فأنا أتابع أخبار القرية يوميًا وأعيش كل المناسبات وأرسل برقيات التهنئة والتعازي بصفة دائمة. لأني متعايش مع الأحباب وذلك لما لمست فيهم من خصال طيبة وصفات عالية وأخلاق طيبة”.

 

لم تكن الـ 18 عامًا، كافية لنسيان الحب والتقدير الذي يكنّه الطلاب لأستاذهم، بل صارت العلاقة أوثق، حيث لا دافع لاستمراها سوى الشعور بالامتنان والشكر لمن سعى لتعليمهم في ظل ظروف وصعوبات مختلفة. إذ يعبّر الأستاذ حسن عن سعادته الغامرة كونه ما زال يتلقّى الاتصالات والرسائل من طلابه الذين أصبحوا كبارًا في أعمارهم وأخلاقهم.

 

وفي ختام حديثه يرى الأستاذ حسن السيد أن ما عاشه في الجعفرية بريمة: “ذكريات طيبة لا أنساها ما حييت”. معبرًا عن شكره وامتنانه لكل أبناء اليمن والجعفرية بشكل خاص، قائلاً “لو عاد الزمان إلى الوراء لتمنيت العودة إلى ريمة وأهلها الطيبين وطبيعتها الخلابة وجبالها الخضراء”.