كلمات خالدة كتبت من وحي رحيل الثائر الجمهوري اللواء الركن يحيى مصلح مهدي

‏  8 دقائق للقراءة        1563    كلمة

بعد مسيرة حافلة بالكفاح الثوري والنضال الوطني، غادر اللواء الركن يحيى مصلح مهدي الريمي، الحياة في الثاني من فبراير المنصرم 2021م، في العاصمة المصرية القاهرة، تاركًا خلفه حزنًا عميقًا يعتصر قلوب اليمنيين الذي عرفوه مناضلاً جمهوريًا وثائرًا مخلصًا لليمن وثورته المجيدة التي كان أحد أعمدتها والمدافعين عنها خلال حياته العسكرية والمدنية.

منصة “ريمة بوست” رصدت العديد من المرثيات لتوثيق ردة فعل المجتمع اليمني عمومًا والمجتمع الريمي خصوصًا، إزاء وفاة الجمهوري العتيد الذي عرفته اليمن بجبالها وسهولها، وعهدته ساحات الوغى قائدًا شجاعًا لا يتخلى عن مبادئ الثورة والجمهورية، وإداريًا ناجحًا لا يتخلى عن مسؤولية مُثلى حملها على عاتقه.

كانت لحظة رحيل الرجل العسكري المحنك والمدني التنموي يحيى مصلح؛ كفيلة بإعادة إبراز شخصيته ومواقفه الوطنية إلى أذهان كل من عرفوه، أصدقاء، زملاء، سياسيين، كتّاب، وقادة عسكريين، كما تنوعت تلك المرثيات وتعددت أطرفاها وفقًا للمكانة السياسية والاجتماعية الرفيعة التي تبوأها “مصلح” على المستويين الوطني والإقليمي.

“وداعًا يا وهج سبتمبر ووميض أكتوبر وألق السبعين”

لعب اللواء “مصلح” دورًا بارزًا ومحوريًا في اشعال جذوة الجمهورية ومقارعة الإمامة وفلولها، وكان أحد القادة العسكريين الذين كسروا حصار السبعين يومًا الذي فرضه الإماميون على العاصمة صنعاء في نوفمبر 1967م، في مرثية كتبها في وفاة الفقيد نورد جزءًا منها، يقول الدكتور كمال البعداني، كاتب وسياسي يمني “ترجّل اليوم من على صهوة جواده الفارس السبتمبري اللواء المناضل يحيى مصلح مهدي أحد قادة سبتمبر العظيم الذين دافعوا عنها في أكثر من مكان. رحل في قاهرة المُعز بعيدا عن وطنه المثخن بالجراح”.

ويضيف: “وداعاً يا وهج سبتمبر ووميض أكتوبر وألق السبعين يوم، اليوم تبكيك جبال حجة التي دافعت عنها وترثيك جبال صنعاء التي ذدت عنها في ملحمة السبعين يوم، اليوم تنعيك ساحات القتال وقد خبرتك قائدا شجاعا محنكا وتنوح عليك المكاتب الإدارية وقد عرفتك موظفاً شريفا مخلصا وتذكرك قُبة البرلمان التي عرفتك بالحق صادحاً وناطقا”.

تعددت المرثيات التي امتزجت بالحزن وهي تستذكر وتسرد مناقب الفقيد وتمدح سجاياه ومواقفه النبيلة والشجاعة تجاه الوطن والجمهورية، لكن هناك مرثية مختلفة تمامًا، تلك القصيدة التي ألقاها الشاعر زين العابدين الضبيبي خلال فعاليات العزاء الذي أقيم بصنعاء، يقول فيها:

بكَ يا بنَ “مصلحِ” كلُّ حرٍّ يفخرُ

مذ كانَ صوتكَ بالحقيقة يجهرُ

عمرٌ من الأمجادِ أنتَ نقشتهُ

بقلوبنا في كلِّ نبضٍ يكبرُ

يا فارسَ “السبعينَ” واليمن الذي

أحببتهُ.. وعففتَ حين استأثروا

ووهبتَ نفسكَ في سبيلِ خلاصهِ

حباً فكان على جبينكَ يُزهرُ

يمنٌ فُتنتَ بهِ وعشتَ لأجلهِ

وإذا دعاكَ، فلستَ من يتأخرُ

قيلٌ يمانيٌّ وسفرُ كرامةٍ

في كلِّ معنىً للتسامي يحضرُ

يا نبضَ ريمة يا نبي نضالها

وأعزَّ من فيها يجلُّ ويذكرُ

سلمْ على “السلال” في أصحابهِ

منَّا فإنَّا بالمكيدةِ نشعرُ

إذ تنبئ الأقدارُ، أن خلاصنا

آتٍ وأنَّ دمَ الظلامِ سيُهدرُ

طبْ يا رفيقَ الفاتحينَ لشعبنا

باب الصباح، محبةً كي يعبروا

أبطالُ أيلول الذينَ بفجرهِ

داسوا على وجهِ الطغاةِ وجمهروا

من رسخوا الحلمَ الكبيرَ وشيدوا

صرحَ العدالةِ بالفداءِ وسوروا

يكفيكَ.. يكفينا.. بأنكَ منهمُ

يا من بمثلكَ يزدهي سبتمبرُ

فلقدَ رأينا فيكَ من أهدافهِ

ضعفَ الذي نهواهُ أو نتصورُ

وبقيتَ تحملهُ بصدركَ باسطاً

أحلامهُ للناسِ حين تعثروا

وبقيتَ بين الناسِ “تحيا مصلحاً”

من أجلِ راحتهمْ تقوم وتسهرُ

في الأرضِ مثلكَ لا يموتُ إذا مضى

نحو السماءِ بغيمها يتدثرُ

لكنكَ اخترتْ الإيابَ قناعةً

مذْ صارت الدنيا بعينكَ تصغرُ

لم تحتملْ وجع البلادِ وأهلها

إذ كانَ قلبكَ مثلها يتكسرُ

لكنها ستقومُ بعدْ سُباتها

وغداً _كما شئتمْ لها_ تتحررُ

إن النشاط المبكر للفقيد في الحركة الوطنية، كان أبرز ما ميّزه عن غيره من مناضلي ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وعنه يقول عبدالباري طاهر، كاتب يمني: “ارتبط اللواء الركن يحيى مصلح مهدي باكراً بالحركة الوطنية بدءاً بالدراسة في جامع المراوعة (مديرية بمحافظة الحديدة)، تعرفتُ عليه في خمسينات القرن الماضي (العشرين الميلادي)، حيث تزاملنا عند الفقيه (دحمانة) بالمراوعة، وكان حينها يافعاً وطالباً مجداً”.

ويضيف في مقال طويل يتناول حياة الفقيد، نورد جزءًا منه: “انتقل مصلح إلى الحديدة ليتلقى التعليم الحديث فدرس حتى الثانوية العامة، ومن ثم التحق بدأب ومثابرة وصبر بالكلية الحربية بصنعاء بعد التحضيرية، لقد كان قريباً جداً من كبار الضباط الذين اشتركوا واضطلعوا بدور في حركة ١٩٤٨م، أمثال الشهيد (قاسم الثور) والعميد (عبدالله الضبي) والمشير (عبدالله السلال)، قائد الثورة اليمنية سبتمبر 1962م”.

ويصف الفقيد “مصلح” بأنه حينها “كان ذكاء الطالب (يحيى مصلح) ونباهته وشجاعته في الصدع بالحق تلفت الانتباه، وله في ذلك مواقف كثيرة، سيلاحظها القارئ في هذه المذاكرات”، مشيرًا إلى مذكرات الفقيد مصلح التي كتبها منذ بداية الثمانينات “شاهد على الحركة الوطنية يحيى مصلح مهدي سيرته ونضاله”، وكتب مقدمتها الكاتب ذاته عبدالباري طاهر.

 

رحيل “مصلح” وحّد مواقف السياسيين

رحل اللواء الركن يحيى مصلح بعد أن خلّد مواقف وطنية عظيمة، تطرقت إليها المرثيات وبرقيات التعازي التي بعثتها شخصيات مدنية وسياسية حكومية وحزبية على المستوى الوطني والدولي، أبرزها تلك التي بعثتها، رئاسة الجمهورية ورئاسة السلطات التشريعية والسياسية ومحافظي بعض المحافظات وبعض رؤساء الأحزاب اليمنية والشخصيات الاجتماعية؛ إلى أسرة الفقيد.

تلك المواقف الوطنية والجهود المخلصة في سبيل الجمهورية لا يكاد يختلف عليها اثنان، وهو ما تطرق إليه الدكتور عبد العزيز بن حبتور، رئيس الوزراء بصنعاء، في بيان نعيه قائلا “عاش ومات المناضل مصلح على العهد في إخلاصه لوطنه شجاعاً نزيهاً مثل كل أبطال سبتمبر الحقيقيين، لا يساوم على جمهورية أو يقر على الباطل كما لا يهادن على السيادة الوطنية”.

في حين تشير برقية العزاء التي بعثها الدكتور معين عبد الملك، رئيس الوزراء في الحكومة المعترف بها دوليًا، لأسرة الفقيد، إلى “السجل الحافل للمناضل اللواء يحيى مصلح في المناصب العسكرية والبرلمانية والمدنية والسياسية والدبلوماسية، وما تركه خلالها من بصمات مؤثرة لرجل أحب الوطن ودافع وناضل من أجل أبنائه”. مشيدًا “بمناقب الفقيد ومواقفه الوطنية التي جسدها طيلة حياته الزاخرة بالعطاء والنضال في سبيل الجمهورية والقضاء على الحكم الامامي الكهنوتي”.

مع بدايات تأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام، كان الفقيد “مصلح” أحد أعضاء لجنته العامة، وساهم بدوره حينها في ترسيخ الحياة السياسية وتطويعها لخدمة الوطن وأبنائه، يؤكد رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام الشيخ صادق أبوراس في رسالته لأسرة الفقيد أن ” الوطن خسر برحيل الفقيد يحيى مصلح مناضلاً من الرعيل الأوائل الذين سخروا كل طاقاتهم الذهنية والبدنية من أجل خير الوطن وأبنائه كافة، كما فقد شخصية وطنية سياسية فذة ونادرة ورجل دولة ذو ضمير حي وأخلاق رفيعة”.

وعن وداعه الذي كان مفاجئًا للجميع، يعبر الشيخ حسين عبدالله الأحمر في حائطه على فيسبوك: “عرفنا الفقيد رحمه الله ذلك البرلماني والسياسي الذي ساهم في الحياة السياسية داعماً لكل ما من شأنه السلام الاجتماعي من خلال المناصب التي تقلدها في الدولة، وبرحيله يودع اليمن رمزًا من رموزه وأحد رجالاته الأوفياء المخلصين المحبين لوطنهم”.

الوفاء بالوفاء

ارتباط الفقيد اللواء الركن بمحافظة ريمة التي تربى فيها، جعل من رحيله موقفًا يبعث الحزن في قلوب معظم أبناء ريمة، خصوصًا أولئك الذين عرفوه ولامسوا جوانب شخصيته المحبة لريمة الأرض والإنسان، وأدركوا جهوده في سبيل تنمية المحافظة من خلال تشكيله هيئة تطوير ريمة وما حققته من مشاريع خدمية وتعليمية، يقول عبد الله عزي النوفاني، أحد زملاء ورفاق الفقيد، معبرًا عن حزنه برحيله ومستذكرًا حرص الفقيد على ارتباط اسمه ولقبه بمحافظة ريمة: “رحم الله المناضل يحي مصلح مهدي الريمي فقد كان يحب الجملة الأخيرة من هذا الاسم”.

 

ويرى النوفاني، أن الفقيد اللواء مصلح ناضل من أجل اليمن عامة وريمة خاصة، مستشهدًا بأحد مواقف الفقيد، قائلا: “كنت جليسه (يقصد اللواء مصلح) منذ أن عرفته، لا نفترق إلا إذا كان لأحدنا عملا خاصا به، وقد كان دوما يحثنا على نشر التعليم في ريمة، وأن خروج ريمة من عزلتها مرهون بتعليم أبنائها، وكان يشدد بقوله استثمروا في تعليم أولادكم”.

ويستطرد بحزن: “الحديث طويل جدا رحم الله المناضل يحي مصلح كان صادقا صدوقا له تاريخ يرفع رأس أولاده ومحبيه وقبيلته وشعبه.

أبدى رحيل اللواء يحيى مصلح المكانة العالية التي تبوأها بين أبناء المجتمع بريمة، وهو ما ترجمته مواقفهم حيال رحيله الموجع، ففي العاصمة صنعاء نظم شخصيات ومشايخ ووجهات محافظة ريمة فعالية عزاء تناولت مناقب الفقيد، وحضرها يحيى الراعي رئيس مجلس النواب، وعدد من أعضاء مجلسي النواب والشورى، ومناضلي ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة. لم يختلف الأمر في محافظة مارب، بل إن أبناء ريمة وشخصياتها نظموا فعالية عزاء في وفاة الفقيد اللواء الركن مصلح، أكدوا فيها على أن رحيله يمثل خسارة لليمن ولريمة معًا.