‏  5 دقائق للقراءة        834    كلمة

جدرانه ذات البناء المترابط والمتناسق تروي قصة سواعد أُناسٍ أشدّاء صنعوا تاريخًا مليئًا بالمنجزات العظيمة وخلّدوها للأجيال من بعدهم. لون الجدران الأبيض يكاد أن يتلاشى من الخارج بسبب قسوة عوامل التعرية الطبيعية. بابه الخشبي تزيّنه النقوش القديمة المعتقة بالألوان الزاهية، فيأسر الناظر منذ الوهلة الأولى. حين تدخله تشعر وكأنك اخترقت بوابة التاريخ في لحظة غفلة، وتنتابك الدهشة المفرطة لِما رأيت.
على الأرضية يقف عمودان خشبيان_مثبتان بشكل متوازي_ بصلابة وصبر فلاح قروي، ليدعمان السقف المكوّن من قطع وألواح خشبية مطرزة بالنقوش والآيات القرآنية والزخارف النباتية الجميلة المطعّمة بماء الذهب، والتي توحي ببراعة وإتقان القدامى فنون العمارة والنقش على الخشب.

في السقف المنقوش بعناية فتحة كبيرة شوّهت جماله، تتسرب منها المياه والأتربة إلى داخل المسجد أثناء المطر. ليست تلك الفتحة نتيجة سقوط قذيفة أو صاروخ جوي فالحرب لم تطاله، بل سقط جزء من السقف بسبب دودة “الأرضة” التي نخرت أخشابه دون احترام لنقوشه العتيقة وتاريخه العريق. هكذا تبدو الصورة الحقيقية لمسجد “جنان” التاريخي الواقع في بني الضبيبي بالجبين، الذي يعاني إهمال الجميع.

مالم تدمره الأمطار نخرته “الأرضة”

يعتبر مسجد “جنان” التاريخي الذي بني قبل ٤٠٠ عام، على نفقة السيدة هدى بنت عبدالقادر الحداد؛ أحد المساجد التاريخية التي خلدها الأجداد على جبال ريمة، لتكون شاهدة على حضارة عريقة قامت منذ مئات السنين، وتركت رصيدا تاريخيا ما زالت بصماته خالدة حتى اليوم.
ظل المسجد متماسكا لعشرات العقود غير أن الأمطار الغزيرة التي هطلت منتصف فبراير المنصرم من العام الجاري تسببت بهشاشة أخشابه وسقط جزء من السقف، وهو الجزء الذي ظلّت تنخره دودة الأرضه منذ سنوات، ليصبح اليوم السقف بكامله مهددا بالانهيار، بحسب ضرار نور الدين الضبيبي، إمام المسجد.

ويضيف الضبيبي في حديثه لـ”ريمة بوست” أنه رغم الأهمية التاريخية التي يتميز بها المسجد كأحد أبرز المساجد والمعالم الأثرية في ريمة، إلا أنه لم يتلق اهتماما حين بدأت دودة الأرضه تنخر السقف، سواء من قبل الأهالي أو الجهات المعنية.

في بدء الأمر _أي منذ عشرات السنين_ لم يتعمد الأهالي إهمال المسجد وترك دودة الأرضه تنخر أخشاب سقفه، دون القيام بمكافحتها، بل المشكلة أنهم لم يكونوا يدركوا أهمية المعالم الأثرية، وطرق الحفاظ عليها، حد قول الضبيبي. ويستدرك، لكن خلال السنوات القليلة الماضية تغيرت نظرتهم وكانوا يقومون بجهود محدودة لترميم بعض أجزاء المسجد، غير أن ذلك لم يكن كافيا.

عجز رسمي وإمكانات مُنعدمة

معالم ومباني تاريخية عدة تضررت وتعرضت للانهيار سواء جزئيا أو كليا خلال السنوات الماضية، خاصة أن قطاع الآثار في ريمة لم يجد اهتماما أو سعيا للحفاظ عليه من قبل الجهات المعنية، ليستمر مسلسل الإهمال متواصلا حتى اليوم. فخلال الشهرين الماضيين، ونتيجة الأمطار الغزيرة التي هطلت على المحافظة، تعرضت بعض المعالم التاريخية لأضرار كبيرة، أبرزها سقوط جزء من سقف مسجد جنان التاريخي في بني الضبيبي بالجبين، وانهيار أجزاء من السور الخارجي لمبنى “الحكومة” الأثري في اللمهيل بالجعفرية، بحسب حسن القليصي مدير عام مكتب الآثار بالمحافظة.

ويضيف القليصي أنه بعد تضرر مسجد جنان التاريخي ومبنى “الحكومة”، قام مكتب الآثار بالمحافظة بمخاطبة الهيئة العامة للآثار لطلب التدخل لترميم وتأهيل المباني المتضررة، غير أن هيئة الآثار ممثلة برئيسها مهند السياني، اعتذرت عن القيام بذلك بسبب عدم توفر إمكانيات مادية وموازنة مالية لدعم مشاريع ترميم المعالم الأثرية. مرجعا ذلك إلى الوضع الاقتصادي المتدهور الذي خلّفته الحرب القائمة منذ ست سنوات.

في ذات السياق، أبدت الهيئة استعدادها لإرسال لجان متخصصة للنزول إلى ريمة لدراسة وتقييم الأضرار التي تعرضت لها المعالم الأثرية، لكن على أن تتكفل السلطة المحلية بتكالفيها، وهو الأمر الذي لم يلق تجاوبا من قبل قيادة السلطة المحلية بريمة، حد قول القليصي.

وكانت قد حذرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة” يونسكو” في بيانات سابقة، من الأضرار التي تتعرض لها الآثار والمواقع الأثرية في اليمن جراء الحرب، سواء من خلال الاستهداف المباشر أو تعرضها للتدهور والإهمال. وقالت آنا باوليني، مديرة مكتب اليونسكو الإقليمي لدول الخليج العربي واليمن، “في أوقات النزاع تكون الثقافة معرضة بشكل خاص للأضرار الجانبية والنهب والتدهور”.

مناشدات مجتمعية لإنقاذ ما تبقّى

ويعلّق ضرار الضبيبي على الدور المجتمعي الذي يفترض أن يقوم به أبناء المجتمع، “عندما سقط جزء من السقف، أبدى الأهالي استعدادهم لترميمه، غير أن ظروفهم المادية حالت دون قدرتهم على تحمّل كل التكاليف المطلوبة لعملية الترميم”. في حين يخشى أهالي المنطقة من أن يصبح تدخلهم لترميم مسجد أثري مخالفةً يحاسبون عليها أمام القانون، خصوصا أن عملية الترميم تحتاج إلى أشخاص متخصصين في مجال ترميم وتأهيل الآثار، بحيث يستطيعون الحفاظ عليها وإعادتها إلى صورتها السابقة دون أن تتعرض لتشوّه أو تخريب.

كما يناشد الأهالي الجهات المعنية وفاعلي الخير من أبناء المحافظة، لبذل ما بوسعهم لترميم وتأهيل المسجد التاريخي الذي يعبر عن امتدادنا الحضاري المضيء على صفحات التاريخ؛ والحفاظ عليه من الانهيار بشكل كامل. مشيرين أن انهيار المعالم التاريخية يمثّل خسارة كبيرة لكل أفراد المجتمع، كونها ذاكرة الشعوب التي تحفظ لكل عصرٍ شواهده ومظاهر حياته الفنية والاجتماعية والثقافية والسياسية.