“من غير أبوهم اللي فلّتنا وراح”كيف انتصرت فاطمة لذاتها ؟

‏  8 دقائق للقراءة        1561    كلمة

“يا بنتي إذا ماشي تعبك وشقاك وكافحك ماكنك قدرك أربي عيالي واشقي عليهم لحالي ومن غير ابوهم اللي فلتنا وراح له” (إذا لم أتعب وأُكافح ما كنت لأستطيع تربية أطفالي وأصرف عليهم وحدي دون وجود والدهم الذي تخلّى عنّا ورحل).

الخالة فاطمة 49 عاماً، تشتغل كعاملة نظافة في أحد المستشفيات بريمة، منذ أن تخلى عنها زوجها تاركا خلفه خمسة أطفال صغار، كان سادسهم ما يزال جنينا بين أحشائها.

معاناة شتى تحملتها الخالة فاطمة في سبيل الحفاظ على فلذاتها (أطفالها) وتوفير لقمة العيش الكريمة لهم، ناهيك عن مسؤولية تربيتهم بعد أن تركها من نطلق عليه اعتباطًا – زوج وأب – دون أدنى شعور بالمسؤولية، ولكن لم تستسلم “الخالة فاطمة” أمام تلك الظروف القاسية التي مرت بها، ولم تقف مكتوفة اليدين مثل كثير من قريناتها في الريف، فقد عرفت مبكرا طريق الكفاح واختارت السير فيه بإرادة حُرّة وعزيمة لا تلين، لتصنع من ضعفها قوة، ومن عنفوانها نجاح يفتخر به أولادها.

 

لم تمانع عندما أخبرتها بأنني أنوي كتابة قصتها ونشرها، وكأنها تريد أن تخبرني أن أنشر قصتها، لتشحذ همم الكثير من النساء اللواتي ما زلن قابعات في قوقعة اليأس والتسويف. تأخذ نفساً عميقًا ثم تزفره بهدوء، وكأنها تنشدُ السكينة وتقول: “كنت مثل أي بنت تحلم بالزواج والسكينة والاستقرار في بيت صغير يكون دنيتها ووطنها محاطة بمجموعة من الأطفال السُعداء وكنف زوج مُحب هذا كل ماكنت أتمناه”.

وتضيف “تزوجت ورُزقت بأبناء ولكن لم تخلو حياتي من المشاكل، فقد كنت أسكن عند والد زوجي، وللأسف لم تمضي الحياة كما كنت أتمنى فاضطررنا للانتقال للعيش في منزل آخر قديم يشبه “الخرابة” (غير قابل للسكن أو العيش فيه) ولكن صبرنا وقلت عسى تنتهي مشاكلنا”.

لم تنتهي مشاكلهم بمجرد انتقالهم إلى بيت آخر خصوصا أن زوجها عاطل عن العمل ” كان زوجي عاطل عن العمل ولا يلبي احتياجات الأطفال من طعام وغيره، لأنه ما كان يهتم بالبيت، كل همه “القات” شبيع نفسه من أجل يخزن” (القات نبتة خضراء يتناولها أغلبية الشعب اليمني)

حياةٌ قاسية وخيارات أقسى

فكّرت كثيراً بحلٍ يخرجها من الوضع الصعب الذي تعيشه “فكرتْ في حل عشان أقدر أوفر لأطفالي الغذاء، وقررت اني ما أقف عاجزة وانا اشوف وضعنا صعب، وقررت أن أشتغل”.

 

أفكار عدة أرقت فاطمة حينما قررت العمل، إذ لم يكن عمرها يتجاوز 23 عاما، إضافة إلى كونها امرأة أمية لم تلتحق بالتعليم ” كنت لا أقرأ ولا أكتب لأني ما درست، وكنت مش عارف ايش ممكن اشتغل، لكن طلع في بالي إني ممكن اشتغل منظفة، فذهبت وقدمت للعمل كمنظفة في المستشفى القريب مننا، فطبلوا مني ان اشتغل كمتطوعة حتى ألقى بعدها درجة وظيفية، فوافقت دون تردد لأن قسوة الحياة لم تترك لي خيار آخر”.

 

لم يكن بالأمر السهل أن تصل الخالة فاطمة إلى ما وصلت إليه في مجتمعٍ ريفي تحكمه العادات والتقاليد التي في الغالب لا تحبذ عمل المرأة في أي مهنة فضلا أن تكون عاملة نظافة، ولكن بصبرها وكفاحها، استطاعت أن تتغلب على الصعوبات وتعمل كعاملة نظافة في المستشفى.

 

شحنات سلبية دفعتها لرحلة الأمل

واصلت حديثها بصوت مبحوح وكأن صدرها المثقل بالذكريات قد أنهكها “كلام الناس كانت جداً قاسيه وقاتلة في نفس الوقت، وزوجي لم يستطيع التحمل ومع علمه بحملي قوى دافعه للسفر والعمل وتركني عندما علم زوجي أني حامل تحمس للسفر وتركني وحيدة.

 

لم تتوقف عن العمل بل عملت حتى جاء المخاض، ورزقت بطفلة التي هي طفلتها الأولى ” رزقني الله بطفلة جميلة ولكن زوجي لم يخفي انزعاجه الشديد وتذمره لأنه كان يرغب بطفل ذكر”.

 

في بداية الأمر كان الزوج يسافر للعمل ويغيب لفترات متقطعة ثم يعود ” كان يسافر يشتغل ولما يرجع يأخذ ما معي من فلوس ليصرفها على نفسه في القات”. مرت السنوات والزوج بمثابة الحاضر الغائب والخالة فاطمة تعاني قساوة ومرارة الواقع المعاش خصوصا أنها أنجبت مزيدا من الأطفال وكثرت المسؤولية عليها في ظل زوجها الذي يغيب ولا يعود إلا ليبدي امتعاضه من انجابها للبنات.

 

لم تستسلم لهجران زوجها بشكل متقطع، بل عملت بكل جهد في عملها بالمستشفى لتوفر لها ولأطفالها قوت الحياة الضروري، فكان المستشفى بمثابة بيتها الثاني الذي تعمل فيه بكل اخلاص فكسبت احترام الجميع هناك. وقد ساعدها قلبها الرحيم وعقلها الذكي في تعلم أمور التمريض على أيدي المتخصصات في المستشفى كما أن الطبيبات قمن بتعليمها والاعتماد عليها في كثير من حالات الولادة، خصوصا في الفترات المسائية. حيث كان أهالي القابلات لا يسمحون لهن بالدوام في المستشفى في الفترات المسائية لمساعدة الدكاترات الروسيات ” كنك اجلس جنب الدكتورات الروسيات وأتعلم منهن لأنو ما كنبش ممرضات بالليل، فاذا جت حالة ولادة، أنا كنك اجلس اساعدهن وأستفيد منهن حاجات كثيرة، لأنهن كانين طيبات ويحبيني ويعلمني كل شيء” ( كنت أجلس أساعد الدكتورات الروسيات المتخصصات لأنه لا يوجد أي قابلات أو ممرضات يشتغلين في الليل، فكنت اساعدهن وأستفيد منهن خبرة كبيرة، لأنهن كن يحببني ويعلمني كل شيء).

 

الإستغلال الأمثل

بوجه بشوش وبابتسامة المنتصر تقول الخالة فاطمة “كان العمل كممرضة وقابلة في الفترة المسائية فرصة جيدة” ولكنها لم تكن موظفة رسمية في المستشفى بعد. فقررت أن تلتحق بمدارس محو الأمية لتقترن الخبرة بالعلم وليسهل ذلك عليها الحصول على درجة وظيفية، إلا أن لزوجها رأي أخر” لم يوافق زوجي على التحاقي بمحو الأمية وحاول أنو يكسرني ويحطم ارادتي”. فظلت الخالة فاطمة 12 عاما تعمل كمتطوعة ثم متعاقدة بينما العديد من زملائها حصلوا على الدرجات الوظيفية دون عناء، ولكن ذلك لم يضعف عزيمتها.

 

مسؤولية الأسرة

تقول والأسى يبدو على وجهها ” فلتني فجأة ومابش بيننا شيء وكنك عادنا واحم بالشهر الثالث، تشاجر هو وعيال عمه وكان بينهم مشاكل، وأختفى ما عاد سمعنا عنه ولا خبر” (تركني فجأة ولم يكن بيننا أي مشكلة، وكنت حامل في الشهر الثالث، تشاجر مع عيال عمه وكان بينهم مشاكل وسافر واختفى ولم نسمع عنه أي خبر حتى الأن).

 

تضيف بحزن ” بعد 15 عام غادر زوجي ولم يخبرني حتى، وترك لي خمسة أطفال، سادسهم سقط أثناء الحمل بسبب تعبي وشغلي الكثير بعد غيابه” وتواصل حديثها ” تركني أنا وأطفالي دون ذنب وكان غيابه المفاجئ سبب في انهياري وأقسى ما مريت به، لأني بعدها تعرضت لمضايقات أهل الحي وكنت دائما بالليل أسمع أصوات مرعبة، وعشت في خوف لأني أصبحت أما وأبا لخمسة أطفال”. كانت الخالة فاطمة على قدر كبير من المسؤولية تجاه أطفالها الصغار “ما زالت دمعات بنتي وهي بنت خمس سنة أشوفها امامي بسبب مضايقات أهل الحي، فشعرت بالعجز كثير ولكن ازداد اصراري على الكفاح وحماية أطفالي مهما كان الثمن اللي بتحمله”.

 

ثمرة الإيمان بالعلم

 

كافحتْ بكل قوة ولم تضعف أمام الصعوبات والمشاكل التي تحملتها بمفردها، والتحقت بمدارس محو الأمية رغم انشغالها بالعمل في المستشفى وتحملها مسؤولية الأسرة. وقد ساعدها التحاقها بالتعليم وخبرتها في العمل الصحي في تثبيتها كموظفة في المستشفى، بل وأصبحت تقدم الخدمات الصحية للمرضى في حال غياب القابلات والممرضات، فهي معروفة بعملها المتقن، وسمعتها الطيبة عند جميع أهالي الحي والمنطقة.

 

استمرت في طريق الكفاح الذي اختارته من أجل أن تضمن حياة كريمة لها ولأبنائها، بل وعملت على تربيتهم تربية صحيحة ودعمتهم وشجعتهم على مواصلة التعليم كي يكونوا قادرين على مواجهة متطلبات الحياة. فابنتها “جميلة” (اسم مستعار) 24 عاما أكملت دراستها الجامعية، وابنتيها وفاء 18 عاما وكريمة 20 عاما (أسماء مستعارة) أكملن دراستهن الثانوية، غير أن ابنها محمد (اسم مستعار) 17 عاما ساعدته في افتتاح مشروع صغير. أما أمجد (اسم مستعار) فما يزال في المرحلة الثانوية، وهو ابنها الأصغر الذي ولد ولم يشعر بحنان الأب يوما، فكانت الأم والأب الذي يحتوي أبناءه دون تقصير.

 

كفاح من أجل الأبناء

تبتسم فاطمة وتتحدث عن أطفالها الذين أصبحوا كبارا بفضل معاناتها “رؤية أبنائي جميعاً في حال جيد، وحبهم الشديد لي وافتخارهم بكل ما قدمت عشانهم، جعلني أنسى جميع الصعوبات التي مريت بها، والآلام التي عشتها والظلم اللي لقيته من الذي أعتبره سندي وأبو أطفالي” وتضيف “أعيش الآن حياة طيبة وهادئة الحمدلله، حتى انني ما عدت محتاجه اني اشتغل بالمستشفى ولكن لم أستطيع التخلي عن المكان الذي أنجبني من رحم المعاناة واعادني الى الحياة”. وتختم الخالة أم فاطمة حديثها بكلمات هي بمثابة طريق لغيرها من النساء “لا تيأسي وخلي من ضعفك قوة، ومن قساوة أيامك عزيمة وإصرار”.