أواخر سبعينيات القرن الماضي، تلقّى الاستاذ محمد قشرة بمدينة الحديدة، دورات تدريبية فنية مكثفة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، وإرسال واستلام “البرقيّات” والبريد وخدمات المشتركين وهي البوصلة التي حددت المسار الذي سلكه الرجل في حياته العملية، في مجال الاتصالات بريمة، لفترة زمنية امتدت بعد ذلك لما يقارب 30 عامًا.
محمد علي قشرة، مهندس فني وشخصية اجتماعية، والرجل الذي ظل اسمه مقترنًا بإنشاء محطات الاتصالات الريفية في ريمة منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. ولد قشرة في مديرية الجبين في 1960م، وقضى طفولته على جبالها الشاهقة المكسوة بالضباب، غير مدرك أنه سيتنقل ذات يوم في معظم جبال ريمة كذلك، بحثًا عن مواقع مناسبة لإنشاء محطات للاتصالات تلبي احتياجات المجتمع.
بدأ قشرة تعليمه الابتدائي بمدرسة الحيث بالجبين على يد الأستاذ المرحوم محمد أحمد السياني – الذي تتلمذ على يديه العشرات من شخصيات ريمة.. “درست في ريمة حتى تحصلت على الإعدادية، والثانوية، بعدها نزلت مدينة الحديدة وشجعني على الدراسة الفنية الأخ والوالد، مدير عام فرع الاتصالات بالحديدة، المرحوم أحمد محمد ناصر”. يقول محمد قشرة لـ”ريمة بوست”.
بدايات الاتصالات بريمة
تقلّد محمد قشرة أول وظيفة له في مجال الاتصالات مطلع الثمانينيات كمسؤول عن مركز الاتصالات بمديرية الجعفرية، في إطار مخرجات الدراسة الفنية التي تلقاها في الحديدة. فاستمر بالعمل هناك حتى 1982، ثم انتقل بعدها لإدارة تحويلة الاتصالات بالمحويت وبعدها الى منطقة حفاش في ذات المحافظة ليعود بعد ذلك الى مسقط رأسه مركز الاتصالات في مديرية الجبين، ليبدأ حينها المشوار في تأسيس وإنشاء قطاع الاتصالات في محافظة ريمة التي كانت حينها تتبع إداريًا محافظة صنعاء.
وفي حديثه عن نشأة الاتصالات بريمة، يقول “قشرة” إن الاتصالات كانت خلال السبعينيات مجرد جهاز تلغراف واحد مرتبط بسلك معدني ممتد من مديرية الجبين إلى العاصمة صنعاء، يستقبل البرقيّات الرسمية عبر نظام التراسل التماثلي، ليتم بعدها في 1979م تركيب جهاز لاسلكي واحد، ومن ثم إنشاء محطة اتصالات كندية تحمل 6 خطوط لاسلكية.
ويضيف لـ”ريمة بوست”: “أول شبكة اتصالات أنشئت بداية الثمانينيات تضم سعتها 100 خط وتعمل على أربعة أرقام مباشرة، وذلك بعد تدشين سنترال شعوب في صنعاء، عام ۱٩٨٠م، وفي إطار تطوير منظومة الاتصالات في الأرياف، تم تركيب كابينة اتصالات في 1999 بسعة 115 رقم هاتفي”.
خلال السنوات التي تلت إعلان الوحدة اليمنية وحتى إعلان ريمة محافظة مستقلة في 2004م، شهد قطاع الاتصالات في اليمن بشكل عام تطورًا كبير، كما حظي باهتمام من قبل الجهات المعنية، ما عزز الجهود الحثيثة التي كان يبذلها “قشرة” لرفع سعات الخطوط الهاتفية من خلال إنشاء محطات اتصالات سلكية ولاسلكية ريفية، لترتفع بعدها الخطوط الهاتفية في ريمة إلى 1500 خطًا هاتفيًا.
كابلات تنهشها الرصاص
إلى ما قبل عام 2000م كانت الاتصالات في ريمة تتكون من عدد من محطات الاتصالات اللاسلكية التي تعمل كوحدات متكاملة بالطاقة الشمسية، يتم منها توصيل (سلكيًا) عدد من الأرقام الهاتفية للأشخاص القريبين من المحطات التي غالبًا ما أنشئت في مراكز المديريات كونها تضم تجمعات سكنية متقاربة، لكن المشكلة التي كان يعاني منها قطاع الاتصالات حينها تعرض الكابلات الخاصة بالمحطات للانقطاع نتيجة إطلاق المواطنين الأعيرة النارية.
ويؤكد “قشرة” أن كابلات محطات الاتصالات كانت تتعرض بشكل مستمر للانقطاع نتيجة الرصاص التي يطلقها المواطنون في الاحتفالات، ما يتسبب بانقطاع خدمات الاتصالات، ليضطر للاستعانة بمهندسين وفنيين من محافظة الحديدة، حيث يأتوا إلى ريمة لإصلاح تلك الكابلات رغم صعوبة الطرقات ووعورتها، فتتحمّل إدارة الاتصالات تكاليف باهظة نظير ذلك.
كما إن من أبرز الصعوبات التي واجهت عملية إنشاء وتأسيس الاتصالات بريمة، التضاريس الجبلية الصعبة وعدم وجود طرق للسيارات تساعد في إيصال المعدات والأجهزة التي يحتاجها العمل.. حيث يستطرد “قشرة” إن بالرغم من تلك الصعوبات إلا أنه وخلال فترة إدارته، أنشئت العديد من محطات الاتصالات في كل مديريات المحافظة، إذ كان المواطنون يضطرون لحمل المعدات والأدوات – رغم وزنها الثقيل – على أكتافهم.
انجازات تتحدث
في 2004م أعلنت مديريات ريمة الست محافظة مستقلة، فنال قطاع الاتصالات نصيبه من الاهتمام الملحوظ مقارنة بالإهمال الذي عاشته ريمة قبل ذلك، فكان “محمد قشرة” الشخص الذي تراه الجهات المعنية أكثر جدارة وخبرة بالاتصالات، فتم تعيينه مديرًا لفرع المؤسسة العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية بريمة، فكانت تلك المهمة تتويجًا لمشواره الطويل في إدارة الاتصالات.
حتى أواخر عام 2005م – يردف قشرة – أنه تم رفع سعات الخطوط الهاتفية إلى (7680) خطًا هاتفيًا في مناطق ريمة مقارنة بـ 1500 خطًا هاتفيًا فقط قبل إعلان ريمة محافظة، كما تم تركيب سنترال الجبين مركز المحافظة، بسعة ألف خط هاتفي، إضافة إلى تركيب العديد من المحطات الريفية في مناطق مختلفة.
ساهمت الخبرات السابقة التي اكتسبها “قشرة” خلال عمله في تحديد احتياجات ريمة من خدمات الاتصالات، ومحاولة توفيرها خلال فترة وجيزة، لم تزد عن ثلاثة أعوام منذ توليه إدارة فرع المؤسسة، متجاوزًا التحديات والصعوبات.. “بحسب خبرتي إلى ما تحتاج إليه المديريات من خدمات الاتصالات، فقد تم تركيب شبكات اتصالات في كل مديرية، كما تم إنشاء ما يقارب عشر شبكات هوائية (لاسلكية) تابعة لشركة يمن موبايل في عموم المحافظة”.
ويوضح “قشرة” أنه تم أثناء إدارته بناء مبنى لفرع المؤسسة العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية، يتكوّن من ثلاثة طوابق, بالإضافة إلى توسيع شبكة محطة اتصالات فرع عاصمة المحافظة الجبين إلى ألفين خط هاتفي، وإيصال خطوط الانترنت عبر كابلات الألياف الضوئية للإنترنت إلى مركز المحافظة، ومن ثم ترك قشرة إدارة المؤسسة في نهاية عام 2007م.
ولا ينسى أن يشير في سياق حديثه، أن الانجازات التي حققتها الاتصالات، كانت بتعاون كبير من محافظ ريمة، اللواء أحمد مساعد حسين، ووزير الاتصالات حينها، عبدالملك المعلمي، إضافة إلى التفاعل الإيجابي الذي أبداه المواطنون الشرفاء من خلال تنازلهم عن أراضيهم بدون مقابل من أجل بناء محطات يمن موبايل لاسلكية، وهو موقفٌ يرى “قشرة” أنه يعبر عن مدى استعداد الأهالي للتعاون فيما يخدم المجتمع.
في 2008م عُيّن قشرة مديرًا للإنشاءات في المحافظة وهي قطاعات الاعمار والتركيب الفني التابعة لوزارة الاتصالات، فتحقق خلال تلك الفترة، بناء مكتب البريد المركزي بريمة، ومبنى بريد مديرية الجبين، وظل في عمله حتى 2010م، حينها تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة – كانت هي الموقف الأصعب في حياته – من قبل أشخاص وصفهم قشرة “بمتآمرين وضعيفي نفوس”، ليتم بعدها تعيينه مستشاراً لوزير الاتصالات لشؤون الانشاءات بناء على طلبه بعدما ارتى الرجل حاجته للراحة بعد اعوام من العمل المؤسسي الناجح.
المزج بين الجد والهزل
عُرف “قشرة” بشخصيته الاجتماعية ومزجه بين الجد والهزل بطريقة خاصة لا تثير حفيظة المتلقي، ما جعله سريع البديهة في التعامل مع المواقف، حيث يستذكر أحد تلك المواقف التي ما زالت تحتل ذاكرته.. “أثناء زيارة الرئيس السابق علي عبدالله صالح لمحافظة ريمة، عام 2004م، مر الرئيس من جوار محطة الاتصالات بالجبين، وسألني عن وضع الاتصالات وما العمل الذي أقوم به؟”.
يضيف مازحًا: “أجبته أن الوضع كما يراه، أما بالنسبة لوظيفتي في الاتصالات، فأنا المدير والفرّاش والحارس، والمهندس والفني، ومسؤول خدمات الجمهور، وأقوم بكل عمل في آن واحد”. أسلوبه في الرد بشكل غير مباشر دفع الرئيس السابق والوفد المرافق له للضحك على ذلك الكم من المسؤوليات الملقاة على عاتقه، كما تم بعدها – أي بعد إعلان ريمة محافظة – رفد الاتصالات بكوادر بشرية مؤهلة.
الأب والصديق
بعد تعيينه مستشارًا لوزير الاتصالات لشؤون الانشاءات في 2010م، واحالته للتقاعد خلال العاميين الأخيرين، يقضي محمد قشرة حياته في منزله بالجبين بين أسرته وأبنائه العشرة (6 إناث، 4 ذكور) ويعمل على حل مشاكل قضايا الناس كونه شخصية اجتماعية لها مكانتها بينهم. وبالرغم من كبر سنه إلا أنه – بحسب نجله وليد – ما يزال محتفظًا بشخصيته الاجتماعية المرحة وأسلوبه المتوازن في التعامل مع أسرته والمجتمع من حوله.
يضيف وليد، 36 عامًا، في حديث لـ”ريمة بوست”: “الوالد له دور كبير وفعال جدًا في تربيتنا وكذلك في تكوين شخصياتنا لحمد الله على نعمة الوالد تعلمنا الكثير والكثير من شخصيته وتعامله معنا كأخ وصديق في معظم شؤون الحياة، وأب في تعامله معنا بصرامة حينما يتعلق الأمر بجوانب الالتزام والأخلاق والسلوك الحسن”.
ويرى وليد أنه استلهم العديد من الجوانب الشخصية التي تميز بها والده: “الجوانب الشخصية التي يمتلكها أثّرت فينا بشكل كبير، فقد كانت شخصية الوالد قوية خصوصًا في وقت الشدائد ولا يقبل الذل أو الارتهان في قراراته. كما أنه يمتلك القدرة على تحمل المصاعب مهما كانت بالصبر والاحتساب لله في ذلك”.
ولا يخفي وليد أن من الصفات التي لمسها في والده أنه دائمًا يتحلى بشخصية صريحة ويحب أسلوب المكاشفة في المواقف سواء مع المجتمع من حوله أو في العلاقات العائلية والصداقة، مشيرًا إلى أنه رباهم على كره لغة الانتقام مهما بلغ الإيذاء بهم، وأن التسامح أقوى من الانتقام كل الحالات.
زيارة الوزير
عُرف عن قشره متابعته المستمرة لكل ما يتعلق بمسؤولياته في الاتصالات لجعل هذا القطاع المنسي نصب أعين قيادة الدولة آنذاك، ففي مطلع الثمانينات من القرن الماضي الماضي كان وزير الاتصالات المهندس أحمد محمد الأنسي أول وزير يصل إلى مديرية الجبين لزيارة فرع الاتصالات هناك، وبرفقته مدير عام الاتصالات بالحديدة المرحوم أحمد محمد ناصر.
مثّلت زيارة الوزير واطلاعه على الاتصالات فرصةً أمام قشره لمتوفير احتياجات الاتصالات، حيث يشير إلى أنه بالفعل، تم بعد ذلك توفير مولدات كهربائي لتغذية بطاريات شبكة الاتصالات التي كانت تُضرب بفعل الصواعق الرعدية، الأمر الذي أزاح عنه همًا كان يراوده حين يرى تزايد الصعوبات التي تواجه فرع الاتصالات، مقابل الاحتياج الضروري له كونه المكان الوحيد الذي يستطيع الناس من خلاله أجراء المكالمات وإرسال واستلام البرقيات.
الموقف الأصعب
لم تخلو حياة الرجل من تعقيدات الحياة ومواقفها الصعبة خصوصًا أنه كان يقضي أكثر من نصف وقته في العمل، غير أن بعض تلك الصعوبات كان وقعها شديدًا على نفسه، إذ ارتبطت بفقدان أرواح يحبها بينما كان بعيدًا عنها، حيث يسرد: “ذات يوم مطلع الثمانينيات كنت أرافق مدير عام المؤسسة العامة للاتصالات بالجمهورية محمد القصوص إلى منطقة في الجبين، وكانت تلك المنطقة مخصصة لإقلاع طائرات الهيلوكوبتر التي تنقل المسؤولين الذين يأتون من العاصمة صنعاء”.
وفي طريق عودته إلى المنزل، صُدم قشرة بالخبر الذي هز وجدانه – حد تعبيره – حيث تفاجئ بوفاة ابنته “أمل” نتيجة انزلاقها من مرتفع صخري جوار المنزل، حيث كان يقوم حينها بإنشاء خزان لتجميع مياه الأمطار. وبالرغم من الحزن الذي خيّم عليه وأسرته في ذلك اليوم، وانشغاله باستقبال المعزين في وفاة ابنته كواجب اجتماعي، إلا أنه وجد نفسه مضطرًا لممارسة عمله واستقبال الناس الآتين لإجراء مكالمات هاتفية كواجب مهني يصعب عليه التخلي عنه.