كعادتها في مساعدة والدتها بمشاغل الحياة اليومية، أخذتْ الطفلة “هجينة عبده” ذات الحادي عشر ربيعًا دبة الماء الفارغة، وذهبت وحدها لجلب الماء من الخزان المائي _ “المعقاب” باللهجة المحلية _ الذي يقع بالقرب من منزلهم الواقع في عزلة بني سعيد بمديرية الجعفرية.
بجسدها النحيل وقفت على حافة فتحة الخزان وفي يدها الدلو ترميه فارغًا وتسحبه ممتلئًا بالماء، فتصبُّه في وعائها الفارغ، فجأة…! انزلقت إلى داخل الخزان، لا أحد يعرف كيفية ذلك، فهي الشاهد الوحيد على تفاصيل وفاتها، ظلّت تصارع الموت بيدين لا تجيدان السباحة، تصرخ… ولا يرد على صرخاتها سوى صدى صوتها الباحث عن النجاة وسط صخب الماء الذي يبث الحياة في كل جسدٍ إلا جسدها.
حين تأخرتْ.. تنبّه أهلها وهبوا للبحث عنها، فوجدوا جسدها عالقًا في الترسبات الطينية في قاع الخزان، ظنوا أن بالإمكان اسعافها، لكنها كانت قد فارقت الحياة. هكذا يسرد عدنان حيدر، (30 عامًا)، تفاصيل حادثة غرق ابنة شقيقته “هجينة” قبل ما يقارب ستة أعوام، لتمثّل فاجعة لوالديها اللذان اعتادا عليها جلب الماء، غير مدركين للخطر الذي يحدق بها.
ويضيف في حديث لـ “ريمة بوست”، أن “جهينة” ليست وحدها من توفيت بالغرق، إذ لم يمر على وفاتها سوى أقل من عامين، حتى لحق بها أخوها “زياد” ذو السبعة أعوام، غرقًا في “بركة” مائية أخرى تقع بمحاذاة الطريق القريب من المنزل، بينما كان يلعب بجوارها دون علم والديه.
ضحايا البحث عن شربة ماء
الطفلان “هجينة، وزياد”، ليسا الضحية الأولى ولا الأخيرة، فحوادث الغرق في الخزانات، تنتشر بشكل كبير في مديريات ريمة، ويقع ضحاياها غالبًا من فئتي النساء والأطفال، حيث يعتمد عليهما في مهمة جلب المياه من الخزانات، والسدود، والبرك المائية، التي تعتبر المصدر الرئيس للمياه في المحافظة.
في حديث لـ”ريمة بوست”، يقول الصحفي فايز الضبيبي، إن طبيعة الجغرافيا الجبلية وشحة المياه وانعدام مشاريع المياه العامة بالمحافظة، دفع الأهالي _ منذ القدم _ إلى الاعتماد على مياه الغيول والسدود والبرك المائية العامة أو البرك الخاصة، والتي تغذيها الأمطار الموسمية، حيث تستخدم تلك المياه للشرب والغسيل ولسقي المواشي، وفي بعض الأحيان لسقاية المزروعات.
ويضيف، أنه رغم أهمية تلك المصادر المائية، إلا أنها أصبحت مصدرا للخطر، وقد أودت بحياة العديد من الأطفال والنساء الذين لا يجيدون السباحة، خصوصًا أنهم من يتحملون مشقة نقل الماء إلى المنازل، سواء على ظهورهم أو على ظهور الحمير، وهو ما تسبب في وفاة العشرات منهم غرقًا في البرك أو الخزانات “المعاقيب”، في معظم القرى والعزل.
وبحسب بيانات رصدتها منصة “ريمة بوست”، اعتمادًا على الأخبار التي نشرتها عن ضحايا الغرق في البرك والسدود بريمة خلال الفترة من ديسمبر 2019 وحتى أغسطس 2020، فإن 10 أشخاص نصفهم نساء والنصف الآخر من الأطفال، قضوا غرقا في مناطق ريفية متفرقة بالمحافظة، وهي إحصائية غير رسمية. إذ لا تتوفر إحصائيات رسمية عن تلك الحوادث بسبب عدم وصول الحالات إلى المراكز الصحية، وفقا لمكتب الصحة.
من جهة أخرى، أكدت الفقرة الثانية من المادة (14) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، إلى ضرورة اتخاذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المـرأة في المنـاطق الريفية لكي تكفل لها، على أساس التساوي مع الرجل، المشاركة في التنمية الريفية والاسـتفادة منها، وتكفل للمرأة بوجه خاص الحق في: التمتع بظروف معيشية ملائمة، لا سيما فيما يتعلق بالإسكان والإصـحاح والإمداد بالكهرباء والماء، والنقل، والاتصالات. حيث يؤثر عدم الحصول على مياه الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي على المـرأة بشكل خاص، فالنساء والأطفال يتحملون العبء الأكبر في جلب المياه في حالة عدم تـوافر مياه الشرب.
مسؤولية من؟
أسبابٌ عدّة، ساعدت في زيادة ضحايا الغرق، الصحفي الضبيبي، يرى أن السبب الأبرز، يكمن في انعدام مشاريع المياه في مناطق ريمة، واعتماد السكان على خزانات حصاد مياه الأمطار التي بُنيت بطرق بدائية، ولا تتوفر بها وسائل الأمان، حيث تضطر المرأة أو الطفل إلى النزول عبر درج خطرة إلى الداخل لتعبئة دبة الماء، أو استخدام دلو لغرفه، وفي الحالتين يكونون عرضة للانزلاق والغرق، خصوصًا أنهم لا يجيدون السباحة.
وتنتشر الخزانات، والبرك، المائية في كل مناطق ريمة، إذ لا تجد مواطنًا إلا ولديه خزان خاص “معقاب” لسد حاجته من المياه، إذ ساهم مشروع ” مشروع السقايات الخاصة” الذي نفذه الصندوق الاجتماعي للتنمية بالتنسيق مع السلطة المحلية خلال عامي 2008-2009م، في بناء المئات منها في العديد من العزل والقرى بالمديريات، عبر عدة مراحل، إلا أن ذلك المشروع توقف بسبب الأحداث والاضطرابات السياسية التي طرأت عام 2011م، وقد ساعد ذلك المشروع في التخفيف من معاناة النساء والأطفال في جلب المياه من الغيول أو السدود البعيدة، وفقا لمحمد إبراهيم القرن، عضو المجلس المحلي بالجعفرية.
ويضيف القرن، إن تلك الخزانات بنيت بالطرق التقليدية، والسلطة المحلية ليس بوسعها فعل شيء في ظل الوضع الراهن، وأن الأمر يتطلب من الأهالي الحذر من ذهاب النساء أو الأطفال لجلب الماء، وذلك حرصًا على حياتهم من أن يقعوا في تلك الخزانات والبرك، مستشهدًا في الوقت ذاته… “أن العديد من حوادث الغرق التي وقعت هي بسبب ذهاب المرأة أو الطفل لجلب الماء بمفردهم، فيغرق أحدهم ولا يكون هناك أحد لإنقاذه”.
من جهة أخرى، يقول الأستاذ نصير شايع، مدير عام فرع مؤسسة المياه والصرف الصحي بريمة، إن حوادث الغرق هي حالات فردية، وفي الغالب تحتاج تلك الخزانات والعيون المائية إلى تحصين لتفادي الانزلاقات بداخلها سواء من قبل النساء أو الأطفال، مشيرًا، إلى أن المؤسسة العامة للمياه نفذت عبر مؤسسة مياه الريف خلال السنوات الماضية العديد من مشاريع المياه في المناطق الأكثر احتياجًا، غير أن النقص الكبير في التمويل نتيجة الوضع المتردي الذي خلّفته الحرب، حال دون إنشاء مشاريع مياه جديدة تسهم في تخفيف العبء الذي يعيشه المواطن، خصوصًا مع حالة النزوح، وارتفاع معدل الزيادة السكانية.
إلى ذلك يتطرق الصحفي فايز الضبيبي، لمعلومة يعتقد أنها مهمة وقد كان لها دور كبير في الحد من حوادث غرق النساء في الماضي، إذ يشير، إلى أن الأهالي في الريف كانوا إلى ما قبل عشرين عامًا، يقومون بتعليم بناتهم السباحة منذ الصغر، لكي ينقذن أنفسهن من الغرق خصوصًا أنهن من يقمن بجلب الماء إلى المنزل كل يوم… “غير أنه خلال السنوات العشر الأخيرة تحرّج الأهالي من تعليم بناتهم السباحة، جعلهن عرضة للغرق في أي وقت، فعندما تسقط أي امرأة فلا تستطيع انقاذ نفسها أو انقاذ غيرها”.
ويستدرك الضبيبي، “لكن ذلك لا يعفي الجهات الحكومية من القيام بدورها، فإذا لم تكن قادرة على بناء مشاريع مياه عامة للأهالي، وتوصيل المياه إلى قراهم ومنازلهم، على الأقل يجب عليها أن تقوم بتأهيل واصلاح مشاريع المياه الخاصة بالأهالي (الخزانات والبرك الخاصة والسدود)، وتوفير وسائل السلامة والأمان فيها، لأجل الحفاظ على حياة المواطنين وتأمين حياة النساء والأطفال المعنيين بارتياد تلك الأماكن لجلب المياه لأسرهم يوميًا طوال أيام السنة”.
أما بالنسبة للأطفال ضحايا الغرق، فيقول عمر عبده، 28 عامًا، ناشط شبابي، أنه ليس بالضرورة أن الأطفال الضحايا قضوا وهم ذاهبين لجلب الماء، فأحيانًا الإهمال الأسري هو السبب، حيث يذهبون لـ اللعب بالقرب من البرك المائية المفتوحة والتي تكون بلا أسقف، فيحدث أن ينزلقون إلى داخلها بالخطأ، أو يقومون بالسباحة وحدهم، وهم لا يجيدون ذلك، فيغرقون.
حلولٌ في متناول اليد
في حديثه لـ”ريمة بوست”، حرص المهندس محمد غالب السعيدي، على تناول الحلول التي من شأنها التقليل من حوادث الغرق، حيث يشير إلى الحل الأول وهو ضرورة تعليم البنات فن السباحة، كون هذا الحل من أنجح الحلول التي نجحت في الحد من حوادث غرق النساء في البرك، مستشهدًا، بنجاح هذا الحل بشكل لافت في منطقة بني الطليلي بمديرية كسمة، بعد أن عانى سكانها قديمًا بسبب وفيات الغرق، ولكن بعد حرصهم على تعليم الفتيات السباحة، تراجعت بل وتلاشت.
ويضيف السعيدي، أن الحل الثاني يرتبط بقدرة الأسر المادية، حيث يمكن الاستغناء عن مهمة جلب النساء أو الأطفال الماء من الخزانات والبرك، من خلال شراء مضخات (دينمو) تعمل بالطاقة الشمسية، كمنظومة متكاملة لا تتجاوز قيمتها 100 ألف ريال (ما يقارب 170 دولارا)، وتقوم بسحب المياه إلى خارج الخزان بطريقة آمنة ومريحة، دون الحاجة للنزول إلى داخله لغرف الماء أو استخدام الدلو، وهي طرق خطرة على كل حال.
ويستطرد السعيدي.. ” أما بالنسبة للشباب والفتيان الذين يقعون ضحايا السباحة في السدود والحواجز المائية الكبيرة، حيث يعلقون في الوحل والطين المترسب فيها، فلا يستطيعون النجاة؛ فالأفضل أن يتم عمل توعية مجتمعية لخطورة السباحة فيها، ووضع لوحات إرشادية تحذيرية توضح خطورتها، بالإضافة إلى تخصيص أو بناء “برك” في القرى تكون مخصصة لإشباع رغبة الفتيان والصغار في ممارسة السباحة.