ببسمات عفوية وبريئة، وبعينين تائهتين تُخبىء خلفهما الأوجاع والحسرات تبدأ الثلاثينية فاطمة (اسم مستعار) حديثها عن رحلات الألم التي صاحبتها طوال سنين زواجها لثلاث مرات.
بحشرجة ونبرة حزينة تقول “لا أدري من أين أبدأ لك فحياتي كلها مآسي، ولا أريد تذكَّر أي شيء، أحاول النسيان فقط من أجل طفلي الذي يعيش معي، والآخر الذي هو بعيد عني”.
عقدت فاطمة زواجها الأول وهي في الثالثة عشرة من عمرها،من رجل يكبرها بعشرين عاما، ومن محافظة صنعاء، بعد أن تقدم لها بواسطة احد أقربائها، فقبل والدها تزويجها. كانت وقتها لا تعرف شيئا، ولا تستوعب ما كان يحدث. تتذكر تلك التفاصيل وتتمنى لو كان الآن لرفضت ذلك الزواج، لتنقذ نفسها من الظلم الذي ألمِّ بها.
زفاف حزين
تجهزت للزفاف بكسوة متواضعة، تروي: “لم استطع رفع رأسي بين النساء هناك ” لتغادر بعد حفلة الفرح من بلادها في ريمة رفقة بعضً من أسرتها الى صنعاء، وبعد وصولها أحضر لها أهل العريس كوافيره لاتمام مراسم الزفاف،ونقلها إلى منزل زوجها في ضواحي صنعاء لتقطع مسافات مُنهكة تقول: “اتعبتني مسافة الطريق،وبدت ملامح التعب على وجهي تطمس ملامحي كعروس”.
تكمل وصلت المنزل وكانت النساء يأتين ليسلمنّ علي، فكنت انكب على رُكبهنّ لأسلم عليهن”ّ. تتحسر فاطمة بقهر كلما تذكرت هذا الموقف، واصفة حالها بقولها “لا أدري كان ذلك مني براءة أم غباء بسبب جهلي وقلة وعيي وصغر سني”.
غلبها النوم وهي جالسة بين النساء اللآتي حضرن لاستقبالها، بإنتظار العصر الذي تحضر فيه بقية النسوة لرؤيتها. لم تكن فاطمة هي العروس الوحيدة المنتظرة بل كان هناك فتاةً أخرى ستزف معها في نفس المكان. كانت تلك العروس محل أنظار الحاضرات كونها تلبس فستانا فخما واكسسوارات أنيقة ومكياجها يبدو متناسقا مع تسريحتها العصرية، بينما تبدو فاطمة منهكة وتلبس فستانا أكبر من جسدها النحيل، ولا تمتلك أي اكسسوارات، الأمر الذي جعلها تشعر بالحسرة بسبب نظرات الشفقة التي ترمقها بها عيون الحاضرات.
طفلة منكسرة في هيئة عروس
ما إن دخل عليها زوجها في غرفتها حتى حل الخوف عليها. تشيح بنظرها عني قائلة: “دخل الغرفة كنت ارتجف من خوفي، أخذ يساعدني في فك تسريحة شعري، كنت أشعر بأنه ينزع مسامير من رأسي، بعدها تنحى جانبا، لم يكن يبدو عليه أنه عريس في أبهى حلة له كان شعره طويل غير مرتب. بدا لي كشخص غير طبيعي. لم يتفوه بكلمة واحدة”.
وبإبتسامة ساخرة تضيف: “استقبلني بإهمال ولامبالة”،تكمل أنّه في اليوم الثالث لزواجها أقيمت حفلة تسمى بـ (الثالث) إذ ترتدي فيه العروس العُصبة (زي تقليدي شبيهه بالقبعة على الرأس)، لم تجد فاطمة فيه من تزينها وتساعدها في تجهيز نفسها، فليس لديها أي خبرة في عمل المكياج ورتيب عصبتها وما سواه، بعكس تلك العروس التي معها كانت في أبهى طلة، فالجميع كان يساعدها ويزينها.
“ذهبتُ لإحدى أخواتها لترسم لي الرسمة على العين فأجابتني بلهجتها الصنعانية “سيري عند تيِّك ترسمها لش أنا مشغول” تضيف: جميعهن كنَّ مشغولات ولم تساعدها أو تقف معها أحد. زفّتِ العروستان معًا، فكانت فاطمة منكسة رأسها تحاول التغلب على البكاء، فتفضحها دموعها ويلاحظن النساء بكائها.
تلك الفترة كان زوجها يتحاشاها، إذ لا يدخل البيت إلا لينام فقط، ولصغر سنها لم تكن تكترث لذلك. كَبُرت هناك واكتشفت مع مرور الأيام أن المعاملة السيئة من زوجها الذي كان من النادر وجوده معها وتعنيفه المستمر لها. لاسيما وهو يأتي بحالة غير طبيعية. وتستدرك “كان يجيء إلى البيت خلسة لا يريد أن يشعر به أحد وكانت ورائحته نتنه، ويستفرغ في كل مكان. ظننت أنه مريض وكنت أرأف لحاله، وأنظف البيت واصبر على تعنيفه وضربه”.
حياة قاسية وزوج أقسى
قضت فاطمة ست سنوات ولم تكن تشعر في عائلة زوجها أنها زوجة ابنهم، بل خادمة تقوم بالكنس والطبخ ورعي الأغنام، وتجمع الحطب وتساعد حماتها في العمل خارج المنزل، فكل همها إرضاؤهم، وفي المقابل كان ما تقوم به لا ينال إعجابهم، وتظل بنظرهم مقصرة، مبررين ذلك بأنها ما زالت صغيرة. سكنت مع زوجها في بيت مستقل وكانت تأمل أن يتغير ويستشعر مسؤوليته تجاهها، إلا أنه ظل على حالته، يغيب شهورا ويأتي متى ما أراد.
حتى أنّه عاد ذات ليلة وهو تحت تأثير غير طبيعي، فدخلت الحمام وعادت إلى الغرفة لتتفاجئ أنّه قام يسألها أسئلة غريبة ثم انهال عليها ضربا وحاول خنقها حتى كادت تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكنها قاومته إلى أن تسنت لها الفرصة فدفعته عنها، وأسرعت هربا إلى خارج البيت حافية القدمين، خوفا من أن يقتلها. كان الوقت متأخرا ولم تعرف حينها أين تذهب، حاولت العودة للبيت لعله قد أستعاد وعيه، فوجدت أنه قد أقفل الباب، ترجَّته أن يفتح لها لكن دون جدوى، فاضطرت لافتراش الأرض والمبيت في العراء حتى الصباح.
في الصباح قررت أن تذهب لخالها الذي يسكن في دارس (أحد أحياء صنعاء)، وسارت مشيا على قدميها من منطقة صرف، ولم تعرف مكان المنزل، فحل عليها المساء. حاولت أن تستذكر رقم والدها ولم تفلح، لكن تذكرت رقم أخ زوجها، إذ تقول: “اتصلت بأخ زوجي لأصف لهم مكاني، وكان أخي وخالي قد وصلوا إلى بيت زوجي للبحث عني وأخذي معهم، فطلبوا مني العودة فعدت أدراجي وقد نال مني التعب والجوع ما نال”. وصلت المنزل وأرادت أن تأخذ ذهبها وملابسها فدفعها خالها حتى ارتطم رأسها بالجدار قائلا لها وهو يصرخ “مش وقت الذهب”، حد قولها.
لتغادر برفقة أخيها وخالها وهي منكسرة ومعدومة الحيلة، ثم أتى والدها من ريمة، ووصلت معه في نفس اليوم ورقة طلاقها من زوجها وتنتهي بذلك قصة زواجها الأول، والذي تعتبره كابوس يورق حياتها بؤساً وجحيما.
كانت حياة سعيدة ولكن..
بعد طلاقها الأول مكثت فاطمة خمس سنوات حتى سنحت لها الحياة بفرصة جديدة لتتزوج من أحد الاشخاص تقول “كنت وقتها سعيدة، فقد وجدت نفسي، وعادت لي الحياة”. بعد زواجها اختيارياً كان الزوج يعمل على المُتر (دراجة نارية) لتوفير قوته الضروري، كان دخله المادي قليل جدا وينتمي لعائلة تعاني من رداءة الظروف الاقتصادية وما دفعه للتقدم لها هو أنها مطلقة ومهرها لن يكون مكلفا في حال تزوج بأخرى لا زالت عزباء. أحبّته فاطمة وعاشت معه المر وشظف العيش وقلَّما عاشت معه لحظات سعيدة بسبب تدخل والدة زوجها في كل شاردة وواردة، كما تقول.
تحملت المتاعب من أجله، وقررا السفر والعيش بمفردهما واستقر بهما الحال في مدينة تعز، ولكن لم يدوم بقاؤهما طويلا، فقد ألحَّت عليه أمَُّه بالعودة، فانصاع لطلبها وعاد للعيش عندها. في تلك الفترة كانت زوجته حاملا بابنها الأول، وجاء إلى الحياة وتكبدت لأجله كل عناء العيش مع زوجها الذي تغيّر ولم يعد يهتم لأمرها، بل كانت تلجأ لتوفير ما تحتاجه من أهلها، ليحدث بعد ذلك الطلاق بسبب وشاية كاذبة سمعها زوجها عنها.
الهروب من السيء إلى الأسوأ
لم يمض على طلاقها من زواجها الثاني سوى ستة أشهر كانت فاطمة بحالة تعيسة فحبها لأحمد زوجها الثاني جعلها لا تتحمل حتى سماع صوت دراجته أو رؤيته، وتمنّت لو تذهب بعيدا وتنساه، وهو ما تحقق بالفعل، كما تقول، إذ تقدم لها رجل لا تعرف عنه شيئا. ولم تكن تدري أن موافقتها بتهور سيقودها لحياة أسوأ، فقد عدت ذلك انتقاما من أحمد وإنصافا لنفسها حسب قولها.
كان زوجها الثالث الذي لم تسمه يكبرها كثيرا، وقد تزوج قبلها خمس مرات، إذ عرفت ذلك مؤخرا بعد زواجها منه. عاشت معه في البداية في قريته في وضع أسوأ مما عاشته مع أحمد وانتقلت بعدما أصرّت عليه إلى صنعاء لتتجرع هناك ويلات تعنيفه وضربه وقلة اهتمامه.
كان عاطلا عن العمل، فعاشت معه في بيت لا يصلح أن يعيش فيه البشر، تقول “في هذه المرة صبرت أكثر مما صبرت في زواجي الأول والثاني على أمل أن يتحسن الوضع وتتغير معاملة زوجي لي، ولا أريد تكرار الطلاق مرة ثالثة، فقد أصبحت سيرتي على كل لسان، ولن يقبل رجل بالزواج من امرأة تزوجت أكثر من مرة”.
كان يخرج للعمل ويقفل عليها الباب في حين لا تجد هي أي شيء في البيت وكانت كثيرا ما تستعين بشقيقها الذي كان مغترب ويرسل لها بحوالات سيرت بها أمورها ووفرت لنفسها ما تحتاج وتغلبت بها على إجحاف زوجها. حملت منه بابنها الثاني في ظروف معيشية ونفسية صعبة وتعنيف مستمر وفقر مدقع حتى ولدت به. لم يكن زوجها مكترث لها ولم يوفر لها ما تحتاجه أي امرأة في فترة الوضع من مأكل ومشرب فكان كعادته يقفل الباب ويذهب وعليها تدبير نفسها.
في اليوم الثالث من وضعها ابنها منه اشتد خلاف بينهما بسبب مرارة ما تمر به من إجحاف كما تروي فهي لا تجد في بيته ما يسند طولها فقام بضربها، فأغمي عليها من شدة النزيف مما اضطرها مجددا للهرب والنجاة من معاناتها معه.
كان الباب مغلقا فلم تجد أمامها وسيلة سوى الهرب من نافذة ضيقة في ذلك البيت وعند خروجها أرادت القفز لكنها وجدت المكان مرتفع، وفي حضنها ابنها فأمسكته بأسنانها بينما يديها مشغولتين بالتشبث بالجدار محاولة النزول حتى وصلت لمكان لم يعد فيه التشبث ممكنا، فقفزت منه وهي لا زالت تمسك ابنها مما جعلها تنزف بشدة.
قررت هذه المرة اللجوء لأحد أقاربها ولم يكن بحوزتها سوى 250 ريال للمواصلات. لحق بها زوجها وأراد عودتها رغما عنها فرفضت وعادت لبيت أهلها بعد أن نفذ صبرها في ثلاث سنوات من العذاب، كما تقول. ليمضي على ذلك حتى الآن سنتين ولم يتصل بها أو يسأل عن ابنه ولا يُعرف له مكان، فهي تريد الطلاق منه لكن لا توجد رغبة من والدها بتطليقها أو البحث عنه فطلاقها للمرة الثالثة بنظره سيجلب لهم العار.
صدمة مستمرة
تعيش فاطمة في منزل والدها مسلوبة الحق والإرادة يعتبرونها وابنها عالة عليهم. تبكي بكاء مريرا عندما تتذكر معاملة أمها وكلماتها الجارحة التي تقرع مسامعها كل يوم، فأغمي عليها وقتذاك ( وقت مقابلة الصحفية معها)، حاولت رش الماء على وجهها لتستعيد وعيها وأنا أرتجف خوفا، فقد كنت أنا وهي في مكان بعيدا عن البيت. ثم عادت إلى وعيها وقالت “لا تخافي أنا بخير”.
تستطرد حينها الحديث عن ابنها محمد الذي كبر في بيت جده، وعند زيارتها له يهرب منها كأنها غريبة عنه فهو لا يعرفها، وقد أصبح يتيم الوالدين، فقد توفي والده أحمد بحادث مروري على دراجته. فتمسح دموعها وتقول بحزن “أصبح الآن يتيم الأبوين. وقد رفضوا أن يعيش معي. وأنا ما عندي عمل حتى أعيش مع اطفالي الاثنين حياة كريمة لا ننتظر فيها شفقة أحد”.
تحاول دائما الاعتماد على نفسها، فقد إلتحقت بدورة تدريبية في فن الكوافير والتجميل، لتشق طريقها وتمتلك عمل تتكسب من خلاله دون أن تنتظر من أهلها شيئا، حد قولها. وتؤكد أن وقع ما مرت به ترك ندبة وجرح عميق في حياتها تحاول نسيانه، لكن نظرة المجتمع لها وتلك العبارات التي تسمعها تجعلها تشعر في قرارة نفسها أنها ناقصة وقد سلبت منها الحياة كل شيء. وتختم حديثها بتحسر، “هذه ليست حياتي، وطلاقي في كل مرة مع الإساءة لي أمات كرامتي. وأفقدني ذاتي، ولكني أحاول أن أكمل حياتي رغم كل شيء.