على سطح منزله بمديرية كسمة يقف محمد رزق، 34 عامًا، وبيده هاتفه المحمول الذي يقلّبه يمنةً ويسرة، ثم لا يفتأ أن يغيّر اتجاهه شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا دون ملل. قد يبدو المشهد غريبًا وغير مألوفًا لكنه في الحقيقة ليس أكثر من مواطن يحاول التقاط التغطية اللاسلكية للهاتف المحمول، من أجل إجراء مكالمة هاتفية بشخص ما، من أصدقائه أو زملائه.
قد ينجح الأمر أحيانًا ويتم الاتصال، وقد يفشل أيضًا، لأضطر بعدها لقطع مسافة تقارب 200 متر من أجل الحصول على إشارة تغطية لهاتفي، خصوصًا حين يتعلق الأمر بمكالمة ضرورية مرتبطة بعملي لدى الهلال الأحمر اليمني أو بأي عمل آخر. يقول محمد.
يضيف في حديثه لـ”ريمة بوست”، أن تغطية الهاتف المحمول انقطعت عن غالبية مناطق مديرية كسمة وجعلت السكان معزولين عن العالم، بعد تعرض أبراج شبكة الاتصالات في جبل برد لقصف جوي قبل ما يقارب عامين. وبحسب وكالة الأنباء سبأ بصنعاء، فقد استهدف طيران تحالف “العدوان” في 28 يوليو من 2018م، أبراج الاتصالات الواقعة على جبل “بَرَد” بمديرية كسمة بخمس غارات أسفرت عن تدمير الشبكة وإخراجها عن الخدمة.
وعن الحياة بلا خدمات اتصالات، يشير “محمد” أن انقطاع تغطية شركات الاتصالات (يمن موبايل-MTN- وسبأفون)، جعله يُشعر أنه يعيش في القرون الوسطى، مؤكدًا أنه خسر العديد من مقابلات وفرص العمل بسبب عدم قدرة الجهات على الاتصال به، الأمر الذي يؤثر على حياته بشكل عام.
ويستطرد، أنه يفكر في تقديم شكوى ضد شركات الاتصالات، كونها تقوم بسحب رصيده بعد انتهاء فترة الصلاحية، في حين لم يستطع استخدام ذلك الرصيد بسبب انقطاع التغطية، خصوصًا أن بإمكان شركات الاتصالات والجهات المعنية بناء أبراج اتصالات للهاتف المحمول في مناطق بديلة أخرى غير المكان السابق، لتوفير الخدمة للمواطنين الذين تفاقمت معاناتهم.
ويرى محمد، أنه من الناس الأكثر حظًا كونه يسكن في مركز المديرية، حيث يمتلك خط انترنت سلكي من بين 200 خط انترنت سلكي متوفرة فقط في مركز المديرية، مشيرًا أن بالرغم من رداءة سرعة الانترنت إلا أنه يساعده في التواصل مع الآخرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدًا أن هناك مناطق محرومة تمامًا من خدمات الاتصالات والانترنت .
عُزلة قسرية للسكان
وبالرغم من المعاناة كبيرة التي يعيشها غالبية سكان مديرية كسمة البالغ عددهم وفقًا للتعداد السكاني 2004م، 69705 ألف نسمة، إثر انقطاع خدمات اتصالات الهاتف المحمول عن مناطقهم، إلا أن أهالي عزل البقعة، شعف، الجبوب، بني مصعب، بني منصور، وبني عبد العزيز، هم الأكثر تضررا من خروج الشبكة عن الخدمة، بحسب محمد رزق.
لاتقل المعاناة أيضًا لدى الكثير من أهالي مديريتي السلفية ومزهر، إذ يشكون معاناتهم الدائمة نتيجة انقطاع تغطية الهاتف اللاسلكية عن مناطقهم، بسبب خروج شبكة جبل برد عن الخدمة والتي تغطي مناطق كبيرة كونها تقع في مكان استراتيجي يتوسط مديريات ومناطق عدّة. حيث يؤكد تقرير سابق لمكتب الاتصالات، أن الشبكة كانت تغطي مديريات كسمة ومزهر والسلفية بخدمات الاتصالات اللاسلكية، لكن استهدافها فاقم معاناة السكان.
في السياق، يقول محمد المسوري، 33 عامًا، وهو أحد أهالي مديرية مزهر، إن انقطاع التغطية فاقم صعوبات الحياة لدى كل فئات المجتمع، وجعلهم محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية المتمثلة في خدمة الاتصالات والانترنت مدفوعة الثمن
ويضيف لـ”ريمة بوست: حتى المغتربين خارج الوطن، تضرروا من انقطاع خدمات الاتصالات، وأصبحوا لا يستطيعون التواصل بأسرهم وأطفالهم، فالتواصل مع أسرهم هو الشيء الوحيد الذي كان يخفف عنهم وطأة الغربة ومتاعبها، مشيرًا أن قصف الشبكة يعتبر عمل ممنهج لمفاقمة أوضاع الأهالي.
أعيان مدنية في مرمى القصف
وبالرغم من وجود ريمة خارج دائرة الجبهات المشتعلة، إلا أن قصف شبكة الاتصالات تسبب بخسائر كبيرة، أبرزها مفاقمة أوضاع السكان، وبحسب المهندس ياسر ثامر مدير مكتب الاتصالات بريمة فقد بلغت الخسائر المباشرة في قطاع الاتصالات نتيجة القصف التي تعرضت له أبراج شبكة “جبل برد” لمرتين متتاليتين خلال 2018م و2019م، حوالي 248 مليون و250 ألف ريال يمني (ما يقارب420 ألف دولار).
ويضيف ثامر لـ”ريمة بوست”، أن الخسائر الغير مباشرة والتي تتمثل بحركة الاتصالات المفقودة نتيجة خروج الشبكة عن الخدمة، بلغت أكثر من 50 مليون ريال يمني (ما يقارب 51 ألف دولار).
في السياق ذاته، يقول الناشط الحقوقي طارق المصباحي، إن استهداف شبكات الاتصالات المدنية من قبل أي طرف في حالة الحرب والنزاعات يعتبر انتهاكًا صارخًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني الذي يجرم استهداف الأعيان المدنية، مشيرًا أن تكرار استهداف شبكة الاتصالات هو انتهاك ممنهج للقانون الدولي الإنساني.
ويحظر القانون الدولي الإنساني استهداف الأعيان المدنية، حيث نصت القاعدة رقم (7) على أن “يُميّز أطراف النزاع في جميع الأوقات بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية. ولا تُوجّه الهجمات إلّا إلى الأهداف العسكرية فحسب، ولا يجوز أن تُوجّه إلى الأعيان المدنية”.
مخاوف الاستهداف المتكرر
وعن الجهود الرسمية لإعادة إصلاح شبكة الاتصالات، يقول المهندس نجيب باشا، رئيس قسم خدمات المشتركين بمكتب الاتصالات بريمة، إن بعد تعرض شبكة جبل برد بكسمة للقصف في يوليو 2018م، عمل مكتب الاتصالات على التواصل بالإدارة العامة للاتصالات بصنعاء وشركة يمن موبايل، من أجل اقناعهم بضرورة إصلاح وإعادة الشبكة للخدمة، نظرًا لعدم توفر بديل آخر وحاجة المواطنين لها.
ويضيف لـ”ريمة بوست”، أن بعد عناء توفير تجهيزات ومعدات جديدة وإصلاح الشبكة وإعادتها للخدمة في يناير 2019م، فقد تعرضت للقصف مرة أخرى من قبل طيران “تحالف العدوان” في 13 يناير من العام ذاته، الأمر الذي تسبب بتدميرها وإخراجها عن الخدمة، وكلّف المؤسسة والشركة خسائر كبيرة.
في ذات السياق، يؤكد، المهندس نجيب باشا، أن السبب في عدم إعادة بناء الشبكة في جبل برد حتى الآن يعود إلى مخاوف مؤسسة الاتصالات وشركة يمن موبايل من تعرض الشبكة للقصف مرة ثالثة، مشيرًا أنه وبالرغم من ذلك ما تزال المتابعة جارية لإعادة الشبكة لنفس الموقع السابق.
وتعود أهمية شبكة اتصالات جبل برد إلى وقوعها على قمة جبل برد الاستراتيجي بمديرية كسمة، والذي يعتبر ثاني أعلى قمة في اليمن بعد جبل النبي شعيب بصنعاء، ويبلغ ارتفاعه عن مستوى سطح البحر 2850 مترًا تقريبًا، وفقًا للمركز الوطني للمعلومات.
وبالرغم من المخاوف الرسمية من تعرض الشبكة للاستهداف مرة ثالثة إذا ما تم إصلاحها، تبقى حاجة السكان إلى إعادة الشبكة ضرورية جدًا لربطهم بمن حولهم، فهل ستتبدد تلك المخاوف وتعاد الشبكة إلى مكانها أم سيظل السكان يعانون لسنوات أخرى؟