من أحد أرياف مديرية كسمة بمحافظة ريمة غربي اليمن استطاعت نجود الروم أن تحصل على منحة دراسية في الجمهورية اللبنانية في معهد البقاع الصناعي / برمجيات لتُصبح ضمن أوائل الطلبة على مستوى لبنان.
ولدت الروم بريمة، فدفعت ظروف العمل والدها للسفر والعيش مع أسرته في المملكة العربية السعودية، وهناك بدأت تعليمها الأساسي، وبعد سنوات قليلة، عاد والدها واستقرت الأسرة في صنعاء، وفيها واصلت نجود دراستها الأساسية والثانوية.
بداية الحلم
تخرجت نجود من الثانوية العامة، وكان تخرجها بداية المعاناة التي خاضتها بصبر مقاتل يؤمن بالنصر لا بالهزيمة. أرادت الالتحاق بالجامعة، غير أنها قوبلت برفض أبيها وأخوانها وإصرارهم بعدم السماح لها بدراسة الجامعة بحجة الاختلاط. تروي نجود شعورها آنذاك “شعرت بالخيبة لأني كنت مخططة لمستقبلي ودراستي، فجأة أصبح مستقبلي مجهول، كنت أعيش فراغ في حياتي. ولم يكن في تلك الأيام تلفونات محمولة أو انترنت أستطيع من خلالهم التعلم والاستفادة”.
وتضيف في حديثها لنا أنها في تلك الفترة فضّلت العزلة عن الآخرين، ورغم أن منزلهم كان في الغالب لا يخلو من الضيوف، فقد اختارت شغف القراءة في مكتبة أبيها التي تحتوي الكثير من الكتب العلمية والدينية، والتي أثرت في حياتها، إذ تقول ” أنا أعتبر تلك الفترة من حياتي، أنها كانت الفترة الملكية أو الماسية لأنها صقلتني وجعلت مني إنسانة ناضجة محافظة. وتأثرت كثيرًا برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبدأت اقتدي بالرسول صلوات الله عليه وسلامه في أشياء كثيرة”.
الإجبار على الزواج
تقدم للزواج منها في تلك الفترة العديد من الأشخاص، غير أنها كانت ترفض الزواج، كونها تفكر في أهداف أخرى، قد يعرقلها الزواج عن تحقيقها. ولكن كان لوالدها رأيًا آخر، فقد أصر عليها بالزواج، واتخذ قرار تزويجها بشخص متزوج ويكبرها سنًا، وله سبعة أطفال رفضت نجود الزواج منه باستمرار، إلا أنها خضعت في الأخير لقرار والدها، تقول: “رفضت كثيرًا ولكن أبي أصر على ذلك فنحن في اليمن القرار قرار الأب في أمور الزواج”.
تزوجت ولم يزدها الزواج إلا معاناة كانت في غنى عنها، فقد كان زوجها يعنفها بشكل متكرر جسديًا ولفظيًا، فكانت تحنق وتعود إلى منزل والدها، فيأتي زوجها ويعتذر بأنه لن يكرر ذلك، ثم تعود معه، ولكن في إحدى المرات هددها بالسلاح، حد قولها، فغادرت إلى منزل أهلها وهي في الشهر السابع من الحمل، واستقرت حتى ولدت طفلتها البكر، ورفضت أن ترجع لزوجها، ثم طلبت منه الطلاق ولكنه رفض فاضطرت إلى خلعه.
مواجهة الأعباء المعيشية
كان طلاق نجود بداية جديدة لحياتها، فزادت مسؤوليتها كونها أصبحت أم لطفلة صغيرة بحاجة إلى رعاية في حين أن والد الطفلة لم يكن ينفق على ابنته، فقررت أن تبحث عن عمل لتعتمد على نفسها وتوفر احتياجاتها وطفلتها، ولأنها خريجة ثانوية كانت فرص قبولها ضئيلة جدًا، فتطوعت في التدريس في مدرسة، على أمل أن تحظى بدرجة وظيفية حكومية، ولكن لم يتحقق ذلك، فاتجهت للتدريس في مدرسة خاصة مقابل راتب ضئيل جدا، لا يوفر احتياجاتها، حد قولها.
عاد كابوس الزواج يراودها مرة أخرى، ومعه أيضاً إصرار والدها على تزويجها ، فقد هددها والدها بأنه سيأخذ طفلتها ويعطيها لوالدها وسيحرمها من عملها إذا لم توافق على الزواج ، حينها اضطرت للموافقة بشرط أن تبقى ابنتها عند أمها كما هو مبين شرعا وتم الزواج من شخص من أقاربها وهو متزوج ويعمل في فرنسا. قرر زوجها أن تسافر معه إلى فرنسا، فعلم زوجها السابق، فسارع إلى والد نجود، وأخبره أنه يريد طفلته، بكت كثيرا وحاولت التمسك بطفلتها، ولكن بعد اصرار الزوج السابق أخذ الطفلة لانصياع والد نجود للأحكام القبلية.
سافرت مع زوجها إلى فرنسا وبقيا هناك ما يقارب الثلاثة أشهر، ثم عادا إلى اليمن، وعلاقتهما جيدة وليس فيها ما يعكر صفوها. تقول نجود:” بعد عودتنا جلست عند أهلي وفي تلك الأيام أحسست بأنه متغير تماما وبعدها أخذني لزيارة أهله، ثم في اليوم الذي يليه أتى لزيارتي وكان بوضع مرتبك وفِي اليوم الذي بعده أرسل لي رسالة من هاتفه. أنتي طالق”.
تضيف ” لم أصدق حينها، وكنت أظن أن هاتفه انسرق. اتصلت عليه، وكلمني أنه خلاص كل شيء بيننا انتهى. وقتها حسيت بشعور فظيع وموجع. خسرت طفلتي، خسرت حياتي، خسرت مستقبلي”. لم تكن تتوقع نجود ما حدث وعاشت بعد ذلك فترة عصيبة ومأساوية حد وصفها.
ثمار الإصرار
لم تستسلم نجود للظروف العصيبة التي عاشتها ولا الفراغ الذي عاشته، بل عزمت أن تشغل نفسها، وعادت للعمل في المدرسة الخاصة صباحا، والتحقت مساءً بدبلوم في مجال الكمبيوتر، ثم قامت بعدها بدراسة اللغة الإنجليزية في أحد المعاهد من أجل تطوير ذاتها، ودراسة العديد من الدورات التدريبية في مجالات مختلفة، وحاولت الالتحاق بالجامعة غير أن الجامعات لم تقبلها كونها شهادتها الثانوية قديمة أي مر عليها ما يزيد عن عشر سنوات، قدمت لدراسة الصيدلة في أحد المعاهد الصحية، واستمرت فيه لمدة نصف عام وحازت على المرتبة الأولى في القسم، غير أنه بعد ذلك اعتذر منها رئيس المعهد وأخبرها أن وزارة الصحة لن تعتمد شهادتها الثانوية القديمة، فاضطرت للتوقف عن الدراسة.
وكانت قد تركت العمل في المدرسة الخاصة، لأن طموحها أكبر من أن تتقيد في التدريس، وحرصت على الاستفادة من وقتها وعدم تضييعه، فقد كانت تدرس لغة انجليزية صباحًا وتعمل سكرتيرة في معهد الصيدلة نفسه الذي درست فيه سابقًا عصرا وفي المساء تذهب لدراسة الحاسوب، وفي تلك الفترة أخبرها أحد المعلمين أن وزارة التعليم الفني والتدريب المهني أصدرت قرار بقبول الفتيات بغض النظر عن عام تخرجها من الثانوية فالتحقت بالدراسة في المعهد التقني في شارع تعز/ برمجيات الحاسوب، وفي عام 2011 تخرجت وحصلت على الترتيب الثاني على مستوى الجمهورية في برمجيات الحاسوب، فحصلت على منحة دراسية إلى لبنان.
وبينما كانت نجود تعد للسفر إلى لبنان، كانت ابنتها تتواصل معها، وأخبرتها أن والدها يريد تزويجها، على الرغم أنها ما زالت طفلة وتدرس في الصف السابع. لم تجد حلا ينقذ ابنتها من الزواج المبكر سوى أن تقوم بأخذها من المدرسة، وقررت حينها أن تتنازل عن المنحة من أجل أن تظل في اليمن لحماية ابنتها، ولكن زوجها السابق (والد الطفلة) لم يسكت على أخذ الطفلة وظل يحاول أخذها بكل الطرق، فتدخلت وساطات اجتماعية لحل الخلاف، فأخذ والدها ابنتها منها وأعادها لوالد الطفلة على أن يلتزم الأب بعدم تزويجها في ذلك السن مقابل أن تعيدها له، وتم ذلك.
نتائج مشرفة
بعدها تابعت نجود موضوع المنحة وسافرت إلى لبنان للدراسة في عام 2013، وهناك درست ليسانس برمجيات، وحازت على الترتيب الثامن من أوائل الطلاب في ذلك القسم على مستوى الجمهورية اللبنانية، انتهت من الدراسة ولكنها لم تكن ترى أن العودة إلى اليمن مناسبة خاصة مع اندلاع الحرب وتدهور الوضع بشكل عام، حد قولها. فقررت العمل وقدمت للعمل في السفارة اليمنية بلبنان، فتمت الموافقة على العمل وعملت فيها سنة .
ولكن كان لأهلها رأيا آخر فقد رفضوا تماما أن تستقر للعمل هناك، وأخذوا قرارا لا رجعة فيه. لم يكن بوسعها إلا أن تستجيب لقرار والدها وأخوانها، جهزت أغراضها للعودة إلى اليمن، لكن كان القدر ينسج لها مستقبلًا آخر، تقول “كنت أتجهز للعودة إلى اليمن، ولكن تقدم رسميا للزواج بي شخص لبناني الجنسية كان يعمل في نفس مجالي، وتزوجت هناك”.
استمرت في العمل بالسفارة اليمنية بلبنان حتى قبل شهور معدودة، استقالت بسبب انشغالها بتربية طفلتها التي لا يتجاوز عمرها الثلاثة أعوام. وخلال هذه الفترة حصلت نجود على الجنسية اللبنانية لتعيش بشكل رسمي. تقول أنها ليست سعيدة كثيرا بالجنسية حيث أنها تفتخر بجنسيتها اليمنية، ولكن ذلك سيسهل عليها الكثير في أمور الحياة، فهي ترى ذلك فرصة لها لتواصل دراستها وعملها هناك.
وتختم أنه رغم ما لاقت من صعوبات ومعاناة، إلا أنها لم تستسلم يومًا أو تتنازل عن أحلامها، وأن التعليم هو النافذة التي مرت خلالها إلى كل النجاحات التي حققتها وأنها لا تزال تحلم أن تواصل مسيرتها العلمية والعملية بإذن الله تعالى.