جسدٌ واهن، وملامح شاحبة تتفصد عرقًا تحت حرارة الشمس وقت الظهيرة، تقف السيدة لطيفة المكشر (44 عامًا) أمام مدخل المركز الصحي بمديرية الجبين، مرتدية زيًا مدرسيًا وعلى ظهرها حقيبة ملونة، غير مباليةِ بِنَظرات المارَّة وهي تتفحصها باستغرابٍ حول ملابسها التي تجعلها تبدو كاليافعات من فتيات المدارس.
بعد نحو ساعةٍ من الانتظار على باب المركز، شعرت “الخالة لطيفة” _كما تحب أن تُنادى_ بجسدها يتهاوى على الأرض فاقدةً للوعي، فيما هب من كان بإزائها إلى نجدتها وادخالها بسرعة إلى المركز حيث أُجرِيَ لها بعض الفحوصات التي بيَّنت أنها تعاني من هبوط حاد في ضغط الدم، لعدم حصولها على تغذية جيدة لفترة طويلة، بحسب الممرضة.
حين استعادت وعيها، تألق وجهها بابتسامة عفوية، ثم مررت بصرها سريعًا على ثوبها المدرسي، وكأنها تفطَّنت إلى نظرات الاستفهام في عيون من كان معها في الحجرة، قبل أن تبادر قائلة “من لا يعرف لطيفة وقصتها؟”.
توقفت لبرهةٍ عن الحديث_مُحَاوِلةً النهوض عن السرير وإسناد ظهرها إلى الحائط_ قبل أن تواصل: “تعودت على أن أعيش وحيدة، لكن حين بلغت من العمر مرحلة الوهن، صرت أحتاج لمن يرعاني ويكون إلى جانبي في أوقات مرضي.. أحيانا تمر عليّ أوقات أفقد فيها القدرة على الحركة، أو أغيب عن الوعي، وحين أفيق أجدني لم أبرح مكاني”.
رهاب الوحدة
بدتْ الخالة لطيفة سعيدة وهي تسرد لـ “ريمة بوست” فصول كفاحها وعزلتها التي حاولت تجاوزها
بأن قررت الالتحاق بالمدرسة مع فتيات المرحلة الابتدائية، حتى تمكنت من القراءة والكتابة، رغم عوزها المادي والعراقيل الكثيرة التي كان عليها أن تتخطاها بإصرار لافت.
تقول: “منذ وفاة والدتي قبل 7 سنوات، أصبحت بمفردي، بعد أن كنت أعيش معها وأعمل على خدمتها وإعالتها من خلال عملي في صندوق النظافة. أما عن أبي فأنا لا أعرفه أبدًا فقد فارق الحياة حين كنت صغيرة”.
بعد شهرين من العزلة القسرية _بحسب الخالة لطيفة_ تقدَّم لخطبتها رجلٌ “لا بأس به صحيًا، لولا أن قواه العقلية لم تكن سليمة تمامًا” لكنها وافقت على الارتباط به، هروبًا من شعورها المرير بالوحدة بعد وفاة والدتها، إلا أن تلك الزيجة لم تدم أكثر من عام، انتهى بانفصالٍ أعادها إلى دائرة العزلة من جديد، كما توضح لـ”ريمة بوست”.
قضت “لطيفة” عقب تلك الفترة عزلة وجودية خانقة، بعد أن أصبحت فريسة للقنوط والشعور القاتل بالوحدة كما توضح لـ”ريمة بوست”، بيد أنَّ تلك التراكمات سوى دافعٍ لتحدى نوبات الضجر الذي يسحقها في أوقات العزلة التي طالما حاولت الهروب منها، حتى نجحت أخيرًا بمحض أن قررت الالتحاق بالمدرسة.
تجربة بمذاق مختلف
بسعادة طفولية، تروي “لطيفة” كيف تغيرت حياتها بعد عامين من تجربة الدراسة بعد تخطي الأربعين، قائلةً: “قررت الالتحاق بالمدرسة، وبالفعل بدأت من الصف الأول الابتدائي.. لكن ما جعلن أكثر سعادة وحماسًا في الاستمرار أنني لمستُ تشجيعًا من المعلمات. كان ذلك دافعًا قويًا ومؤثرًا بالنسبة لي”.
وتستطرد: “لم تعد حياتي بين أربعة جدران. فقد دخل النور إلى غرفتي المظلمة حين اختلطت بالأطفال والمُدرِّسات. تعلمت الكثير وأصبحت أستطيع القراءة، وهذا بالنسبة لي انجازٌ طالما حلمت به.. يكفي أنني أصبحت الآن أكثر إدراكًا لما ينفعني وما يضرني، وصار بإمكاني الخروج للتسوق، دون خوف من أن يخدعني أحد لفرط جهلي”.
على سبيل الدعابة، تشير الخالة لطيفة إلى ما يبدو للبعض “مفارقة عمرية” بينها وبين زميلاتها في الصف، تقول: “على الرغم من أني لا أجد من يذاكر لي غير صديقتي الجديدة (يسرى) ذات الثماني سنوات، ولكني أحاول أن أبذل مجهودًا كبيرًا، لأنه ليس من السهل عليّ أن أدرس بعد أن بلغت هذا العمر”.
“من قرأ درى”
منذ عامين أصبحت “الخالة لطيفة” تستيقظ في الساعة السادسة والنصف من كل صباح، استعدادًا ليومٍ دراسي جديد، تبدأ بتناول فطورها وارتداء زيها المدرسي، أسوة بزميلاتها الصغيرات في الصف، لكن ما يميزها عنهن، هو الشغف غير المحدود الذي يتلألأ في عينيها، من واقع تقديرها لهذه التجربة التي جعلت لحياتها معنًى جديدًا، حيث تكرر على لسانها دائمًا عبارة “من قرأ درى” وهي مثل شعبي متداول، يتضمن معناه “من تعلم عرف الصواب من الخطأ”.