تيم ما كنتوش سميث[1] ترجمة|لطف الصراري
هذه قصة رحلة قمت بها في اليمن منذ حوالي 30 عامًا. كتبتها قبل تسع سنوات، في مطلع 2012، عندما كان كل شيء في البلاد يتغير. مثل الكثير من دول العالم العربي، كان لدينا سنة من الاحتجاجات، الإقتتال والمجازر. كان حاكم البلاد على مدى ثلث قرن، علي عبد الله صالح على وشك التنحّي عن الرئاسة (أو هكذا قال، متخلّياً عن سلطته بابتسامة كانت مزيجاً من الغرور والمكر).
كانت الأمور تتغير بتدفق مثير ومخيف. أفترض أني بالكتابة عن هذه الرحلة أردت الاحتفاظ بشيء من الماضي: من استمرارية ماضي البلاد ، ومن تاريخ نزهاتي الخاصة في العربية السعيدة. يبدو أن هذه الحكاية لمدينة في السماء تلتقط شيئًا ما من بهجة الأرض التي تسمى، باللغة العربية، “اليمن السعيد”.
لسبب أو لآخر، لم تظهر المجموعة التي كتبت القصة لأجلها. وبعد ذلك، في سبتمبر 2014، لم يعد الأمر مهمًا. استولت سلطة جديدة على اليمن بقوة السلاح، وكل تلك الأزمنة الماضية تم ابتلاعها في حاضر كابوسي. تلاشت القلاع الشاهقة ذات الهواء المتجدد فجأة مثل أبراج بروسبيرو المغطاة بالغيوم. لم أعد أتنزّه، وبقيت في صنعاء وسط القذائف والجنازات. بعد مرور أكثر من ست سنوات، لا تُظهر أي علامة على انتهاء الكابوس.
كما هو الحال في جميع الكوابيس، كل شيء يكون صورة سلبية لما هو عليه عادةً؛ فيتحول الضوء إلى ظلام، ويكبر الظلام حتى يصير مرئياً. أثناء زيارتي لجار أصيب في الحرب، وهو شاب هادئ ومهذب، سمعت (ورأيت) كيف اخترقت رصاصة قناص معصمه وخرجت من مرفقه. كانت ذراعه في حالة فوضى، لكني هنأته على نجاته من إصابة أسوأ. قال: “على الأقل لم يهرب”. “لقد قتلته.” نظرت إلى الفتى: كان خالياً من العاطفة. نظرت إلى سلاحه AK-47 المعلق فوقه مع ملصق “الموت لأمريكا” على مخزن الذخيرة. “أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة” ، هكذا قال النبي.
ليس الكلاشينكوف فقط -“آلي”- بعيد المدى، الذي يعطي بُعدًا جسديًا -وربما معنويا، تقوم طائرات الحوثي المُسيّرة وصواريخ التحالف بذلك على مدى أطول بكثير وبطريقة أشد فتكًا. مع ذلك، لدى الجنرال كلاشينكوف الكثير ليجيب عليه. لقد علم هو ذلك أيضًا: لقد أمضى نهاية حياته، وباعترافه هو، في “ألم روحي”.
إذًا، ماذا عن القصة أدناه؟ إن يكن هناك شيء آخر، فهي تشير كيف أن بندقية الكلاشنكوف كانت موجودة دائمًا، معلقة فوق اليمن السعيد؛ تقتل مواطنيه عبر الزمان والمكان أن الموت هنا هو الموت الثاني للهوية.
أما بالنسبة للقلعة في الهواء، فقد لا تكون أكثر من ذلك: حكاية يرويها رجال الجبل، سراب على خريطتي الذهنية لليمن. ولكن محاولة الوصول إلى هناك مرة أخرى… مثل السلام، بدى الأمر قاسيًا بما فيه الكفاية في ذلك الحين.
رحلة جبل بلق
لا بدّ أنه مضى 20 عامًا أو أكثر. عندكا كنت أقفز بشدة على طول مسار جبلي في سيارة تويوتا لاند كروزر بالية ومليئة برجال القبائل النحيفين الأقوياء. صوت المزمار الصاخب (أنبوب مزدوج من القصب) ينبعث من مكبرات الصوت في السيارة، وكان الجو نتنا داخل السيارة بعد عدة ساعات من السفر. في الخارج كانت الشمس حارة، لكن الجو باردا ومتألقا.
تطل سلسلة جبال ريمة، شمال غرب اليمن، على تهامة؛ السهل الساحلي الضيق الطويل بمحاذاة البحر الأحمر. في ذلك اليوم، كما هو الحال في كل يوم، كانت تهامة غير مرئية، فنحن في ريمة على ارتفاع 2000 متر (6600 قدم) وتهامة تحتنا ومغطاة بموجات من البخار المنفصل عن البحر، بينما كانت الشمس تتسلق نحو السماء. فوقنا كانت تعتلينا بعض قمم ريمة الشامخة، 500 متر إضافية (1650 قدمًا) وأكثر، مرصوصة تقريبًا إلى آخرها بالحقول [المدرّجات] التي نمى فيها محصول هزيل من الحبوب. كانت القرى تتلألأ في كل مكان، وتتشبث بخواصر الجبال- وبالحياة فقط. لم تكن الأمطار جيدة في ذلك العام.
استدرنا لتغيير زاوية الرؤية، فظهرت أمامنا قمة جبل غريبة . أتذكر أنه كان لها شكل أرغفة السكر القديمة التي لا يزال بإمكانك شراءها، ملفوفة بورق بنفسجي، في أسواق اليمن. حتى بمعايير الجبال اليمنية، كانت تلك القمة شديدة الانحدار، وبدت أشد وعورة حتى بجانب منحدرَين أكثر سهولة يطوقان مقدمتها. كانت خالية من المدرّجات، من كل شيء، فقط صخرة عملاقة كئيبة.
هذا هو جبل بَلْق.” قال الرجل الريمي العجوز الجالس بجانبي. لقد كان يغذّيني بنُبَذ صغيرة عن التضاريس طوال الطريق. الاسم (البلق)، مثل العديد من أسماء الأماكن في اليمن، يستدعي الأسماء المماثلة إلى الذهن: فمماثل كلمة “البَلَق” عبارة عن حجر جيري أبيض ناعم الحبيبات؛ جبل “البَلَق” هو جبل مزدوج بالقرب من مأرب، موقع السد الكبير الذي انهار في العصور القديمة وعاصمة دولة سبأ، أو (سبأ) قبل الإسلام. نقر الرجل العجوز على مرفقي: “هناك مدينة قديمة على قمة جبل “بَلْق”، كما تعلم، مثل القلعة”.
ابتسمت. يزخر اليمن بحكايات أطلال الدولة السبئية والحِمْيَرية، وهي آثار من صنع الخيال أكبر بكثير من المدى الفعلي لآثار البلد. بعض هذه البقايا الشبحية تعود -كما يقولون- إلى “عاد”، شعب عربي بدائي، سجل القرآن الهلاك الذي الذي لحق بهم. في الأماكن التي يصعب الوصول إليها، يتم إخبار المرء من وقت لآخر (عادةً بنظرة ماكرة تتحدث عن سلب غنيمة)، بأن المغارات وسراديب الموتى تنفجر بكنوز سبأ -فقط إذا عرف المرء الطريق إليها- لدرجة يمكن أن تجعل من توت عنخ آمون وعلي بابا جامعي خردة[2].
الحقيقة والشائعة
الآثار الحقيقية في اليمن مذهلة: سد مأرب، مدينة براقش المعينية المسورة ونفق بَيْنُون، ولا يمكن أن تكون المعالم الأثرية الثانوية في البلاد أقل سحرًا. استكشفت ذات مرة خانقا (مضيق) مليئًا بمقابر منحوتة في الصخر تعود إلى عصور ما قبل الإسلام، ولا يزال عدد منها يحتوي على جثامين شبه محنّطة. سألني أحد القرويين المحليين بتكتم إذا ما كنت أريد تقديم عرض [للشراء]… “يا للعار!” قلت له. “قد تكون جدتك!” (“في اللغة العربية الجدّة القريبة” و”الجدة البعيدة” هما نفس الكلمة).
يزخر اليمن بالعجائب الأثرية، لكن أن توجد مدينة قديمة هنا في ريمة، بين هذه القمم المنعزلة؟ لابد أنها حكاية أسطورية أخرى.
تنتصب ريمة خارج السهل الساحلي بصورة تكاد تكون متعذرة البلوغ، بعيدة عن المراكز الداخلية لحضارة ما قبل الإسلام. لم أسمع قط تقارير تتحدث عن بقايا أثرية قديمة هنا، فما بالك بهذا الحصن الخشن من الجبال. ومع ذلك، وكما يقول المثل، “أهل مكة أدرى بشعابها”، كنت دخيلًا هنا. من أكون لأرفض ادّعاء رجل يعرف دائمًا هذه السلسلة الجبلية كما يعرف منزله؟ علاوة على ذلك، ربما كانت هذه ديار أسلافه منذ أيام سبأ. مثل رفاقه الريميين، تحتفظ لهجة رفيقي العجوز،، بحرف الـ”ك” في نهاية الفعل الماضي (جَلَسْكْ، على سبيل المثال، “جَلستْ” في العربية الفصحى)– وهي سمة متحجرة بقيت من اللغات العربية الجنوبية التي سبقت العربية الفصحى. لماذا لا يحافظ أيضًا على الذكريات الأصيلة الموروثة من بقايا الآثار المادية لفترة ما قبل الإسلام؟ كانت هناك طريقة واحدة فقط لاكتشاف ذلك.
بعد أيام قليلة، وقفت عند سفح جبل “بَلْق” مع مجموعة من سكان القرى الذين تصطف منازلهم في ظلاله طوال الوقت. لقد أكدوا شائعة وجود الخرائب الأثرية على قمته، والتي تعود إلى “الجاهلية”، زمن “الجهل” قبل الإسلام. قال أحدهم: “هناك شكل قلعة، بغرفة منحوتة في الصخر”. وقال آخر: “هناك نفق يمر في منتصف الجبل ويؤدي إلى الوادي وراءه”.
نفق منحوت عبر مئات الأمتار من الصخور الحية. فكّرت أنه بلا شك، قد يكون مسدودًا بباب يُفتح عند نطق كلمة مرور سحرية. من ناحية أخرى، كان هناك ذلك النفق الذي لا يقبل الجدل، نفق من فترة ما قبل الإسلام في الجهة الداخلية من بَيْنُون- بطول 150 مترًا (165 ياردة)، وهو كبير بما يكفي لقيادة سيارة بداخله. “إذًا كيف تصعدون إلى هناك؟” سألت.
“هل ترى ذلك المسار؟” قال أحدهم مشيرًا إلى نقطة ما. تمكنت فقط من ملاحظة مسار صدع صغير، أكثر بقليل من الشَّقّ، ينعطف إلى الأعلى حول الجانب شبه العمودي من الجبل قبل أن يختفي عن مجال الرؤية. “الأمر ليس صعبًا جدًا هناك في الأسفل. هناك بعض الدَّرَج منحوتة في الصخر، لكن عند الجزء الأعلى، يصبح الأمر أكثر صعوبة. في أوقات الأعياد والاحتفالات، يتسلّقه الشباب، كنوع من التحدّي”. “نعم.” قال رجل آخر، “وقبل بضع سنوات، سقط أحدهم ومات”.
رحلتي الأثرية المرجوّة إلى جبل “بَلْق” بدت فجأة أقلّ متعة. ثم تذكرت أن هناك طريق آخر: “ماذا عن النفق؟ لماذا لا نصعد من هذا الطريق”؟ قال رجل آخر من أدِلّائي: “واحد فقط من الشباب كان شجاعًا بما يكفي لدخول النفق”. “بدأ من القمة، وعندما نزل في الوادي أبيض شعره من الرعب”.
نظرت في وجوه الرجال. إذا كانت القصة طويلة، فهي لم تُحكَ. بدلاً من ذلك، وبموجب حُكمي على مظهرهم، اعتقدوا أنها حكاية مفيدة. لا يا “إنديانا جونز”[3] لقد أضفت ذهنيًا جبل “بَلْق” إلى قائمة اسكتشافاتي التي ربما، أو على الأرجح، لم تكن قد حدثت أصلًا.
تفرق الرجال، لكن أحد القرويين الشبّان عاد. قال: “أستطيع أن أريك شيئًا آخر من الجاهلية”. “إنه بالقرب من قمة جبل يامن. ليس بعيدًا، وتسلّقه سهل حقًا”.
“سهل”، عند تطبيقه على التسلق في اليمن، هو مصطلح نسبي. فما هو “سهل حقًا” بالنسبة إلى ريمي تربّى في الجبال ونشأ في عالم بالكاد لديه سطح أفقي، يمكن أن يكون عذابًا بالنسبة لشخص غريب. بعد بضع ساعات تقريبًا، وأنا غارق في العرق، كنت أتساءل ما هي “الحُجرة القديمة” التي قال رفيقي إنها تقع في الأعلى. ربما ملجأ أحد الرعاة على الأرجح، أو -إذا كنت محظوظًا- بعض نقاط المراقبة من الاحتلال العثماني.
قبر منحوت في صخرة
لكن لا؛ كانت حفرة مربعة في وجه الجرف أصبحت مثيرة للاهتمام أكثر فأكثر كلما اقتربنا منها، ثم كشفت عن نفسها باعتبارها مدخلًا لقبر منحوت من الصخر منذ فترة ما قبل الإسلام. كان من الممكن أن يكون ذلك اكتشافًا ساحرًا في المرتفعات الوسطى. لكن هنا، في ريمة، وبما أنها منحوتة من أصل قمة الجبل، كانت المنحدرات المحيطة بها مكتظة بالغابات السحابية الكثيفة.
بنفس القدر من المفاجأة تقريبًا، كانت مقبرة ذات أبعاد فخمة. يفضي الدَّرَج إلى مدخل بمساحة 4X5 أمتار (4.5 X 5.5 ياردة) وكان مرتفعًا بما يكفي للوقوف بداخله بسهولة. على أطول جدران المدخل وهو المواجه للباب، تم نحت كُوة دفن رأسية بطول رجُل. كانت عيناي تتأقلمان مع الكآبة وكانت الكوّة فارغة. تساءلت: أي واحد من الوجهاء السبئيين أو الحِمْيَريين انتهى به المطاف هنا، ولماذا، بعيدًا جدًا عن الهضبة الغنية للمرتفعات الداخلية!
“هل يمكنك قراءة هذا النقش؟” سألني رفيقي الواقف في الخارج، مشيرًا إلى موضع فوق المدخل. عدت نحوه متوثبًا، وها هو: نقش عربي جنوبي منحوت في الصخر، بسيط لكن أنيق: حرف “هاء” ثم “ياء” ربما؛ ثم أصبحت الحروف غير قابلة للقراءة. ربما كان هناك “هاء” آخر في نهاية سطر الحروف، أما البقية فتم محوها وتكسيرها بما اعتقدت أنه ضربات من فأس صغير.
كنت مخطئًا. قال صديقي: “المشكلة هي أن الناس الحمقى أحيانًا يجلسون على ذلك الجبل الآخر”، مشيرًا إلى قمة منخفضة في الجهة المقابلة مباشرة، “ويستخدمون هذا المدخل كهدف للتمرّن على التصويب ببنادقهم الآلية”. لعنت دقة البندقية الهجومية AK-47. يتحدث الصيادون عن الشخص الذي رحل؛ وهذا هو الذي تم إطلاق النار عليه. مع ذلك، يبقى المكان من آثار ما قبل الإسلام بلا شك، وكان يستحق كل قطرة عرق.
والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يوجد بالفعل في قمة جبل “بَلْق”؟ حتى يومنا هذا لا أعرف. ربما يكون من الجيد أنه لا تزال هناك بعض القلاع في الهواء.
- نُشرت هذه القصة في 26 مارس/ آذار 2021، على موقع نيولاينز، ونشرت باللغة العربية في 6 أغسطس/ آب 2022 على موقع المشاهد نت.
__________________________________________________
[1] تيم ماكينتوش سميث مستعرب ومؤرخ بريطاني أقام في صنعاء قرابة 37 سنة، وعاش السنوات الخمس الأخيرة منها في ظل الحرب الدائرة منذ العام 2014. وصف كتابه “العرب: 3000 عام من تاريخ الشعوب والقبائل والإمبراطوريات”، الذي نُشر في عام 2019، بأنه “كتاب واسع النطاق وذو بصيرة مذهلة”.
[2] استخدم الكاتب مصطلح (rag-and-bone men) ويطلق في بريطانيا على الأشخاص الذين يعيشون على ما يجمعوه يوميًا من الملابس والأثاث القديم والخردة القابلة لإعادة التدوير.
[3] إنديانا جونز، هو شخصية خيالية شهيرة في السينما الأمريكية لعالم آثار يتجول لاستكشاف آثار الشعوب القديمة. تم إنتاج أول فيلم لهذه الشخصية في 1981، ومن المتوقّع- حسب “ويكيبيديا”- أن يصدر الجزء الخامس من الفيلم في 2023.