“فاطمة”..امتهان تربية المواشي لمواجهة صروف الدهر

‏  5 دقائق للقراءة        955    كلمة

كنّا نعيش في ستر ومرتاحين حتى دخل زوجي السجن بتهمة القتل, تحملك المسؤولية وعيالي وقتها كانوا صغار, ما وجدك قدّامي إلّا أترعوى (أربي الماشية) وأكفي نفسي وعيالي من الرجعة للناس” تروي فاطمة، الظروف التي دفعتها للانخراط في العمل في تربية الماشية.

 

فاطمة، 58 عامًا, امرأة ريفية اعتادت حياة الكدّ والكفاح حد وصفها, وألقيت على عاتقها مسؤولية تربية أطفالها، ست بنات وولدين، والانفاق عليهم, إذ لم تكن مهنة تربية الماشية خيارًا مطروحًا؛ وإنما كان حلاً وحيدًا أمامها، لتكفي نفسها وأطفالها آنذاك ذُل السؤال، وتدّخر ما تبقّى من ذلك لزوجها القابع خلف جدران السجن.

 

فاجعة المساء

 

كحال أي أسرة مستقرّة يرعاها رب الأسرة، كانت فاطمة تعيش حياة هادئة، لا تلقي بالاً لأيّ هموم معيشية؛ حتى ساق القدر إليها الشقاء في ليلة قلبت حياتها رأسًا على عقب، مطلع تسعينات القرن الماضي.. فعلى حين غرّة سمع زوجها صوت حركة من اتجاه حقل القات خاصته، القريب من البيت، فأطلق النار باتجاه مصدر الصوت، قاصدًا التحذير والتخويف وحماية القات، لكن الرصاصة استقرّت في صدر رجل كان في الحقل فأردته قتيلاً.

 

كانت تلك الحادثة منعطفًا جديدًا غيّر مسار حياة الأسرة، وانعكس على “فاطمة” وأطفالها الذين عانوا مرارة الفاجعة وتجرّعوا ويلاتها، بعد أن سلّم الأب نفسه للعدالة, وأودع السجن، “أظلمت الدنيا بوجهي من المصيبة التي نزلت علينا, وكان يوجّع قلبي عيالي, كافحوا وتعبوا وعادهم صغار, تشارك لي (أخذ المواشي وتربيتها بمقابل مادي أو مشاركة امتلاكها) كسب (ماعز) وكانت واحدة من بناتي ترعهن وزدت  تشارك لي بقرة” تردف فاطمة.

 

خلال تلك الفترة عانت “فاطمة” في حياتها إثر إصابتها بمرض في إحدى عينيها – لا تزال تعاني منه حتى الآن – ورغم ذلك لم تتوقف عن التعليف وممارسة أعمال الزراعة مقابل أجر زهيد، من أجل توفير ثمن الدواء، فتعود في آخر النهار بجسد منهك وطاقة مستنزفة، وغالبًا ما كان الارهاق ينال منها، فتنام قبل أن تتناول العشاء والدواء.

 

كان أكبر أطفالها “أحمد” البالغ 13 عامًا، يوقظها من نومها ويطعمها العشاء بيديه ويعطيها الدواء، ثم يعود للمذاكرة على ضوء الفانوس (قنديل تقليدي يعمل بالجازولين) الخافت وحيدًا بينما بقية أشقائه نيام، لكن ذلك لم يعفيه من الصحو فجرًا مع أخوته لجلب المياه من الغيول في أيام الجفاف وجلب الأعلاف، حيث يجب عليه العودة مبكرًا للذهاب إلى المدرسة وقطع مسافة تقارب ساعة مشيًا على الأقدام.

 

انفراجٌ وعُقدة

 

بعد أن أخذت العدالة مجراها، وجهت المحكمة للأب تهمة القتل غير العمد، وحكم عليه بالسجن لمدة عام ودفع الدية، فاضطر حينها في بداية التسعينات أي قبل ما يقارب 28 عامًا، لبيع السيارة التي يمتلكها ودفع الدية، وما إن استكمل عقوبته المتمثلة بالسجن لمدة عام، خرج من السجن وعاد إلى أسرته.

 

لم يمضِ سوى فترة قليلة على خروج رب الأسرة من السجن، حتى أصيب بجلطة أقعدته وشلت حركته، الأمر الذي أثقل كاهل “فاطمة” حيث شعرت بتوالي المصائب عليها، وجعلها تستمر في رحلة الكفاح وتوفير لقمة العيش وتوفير الدواء لها ولزوجها المقعد، من خلال تربية المواشي رغم مشقة المهنة وضآلة ما تعود به من مال على الأسرة، حد وصفها.

 

بعقلية إدارية، كانت “فاطمة” توقظ أطفالها بعد صلاة الفجر، لتوزع المهام المنزلية بينهم، فتذهب بعض بناتها إلى منطقة بعيدة لجلب “العويد” (الأعلاف)، بينما أخريات يذهبن لرعي الماشية وجلب المياه، وغير ذلك من الأعمال الزراعية الشاقة التي تمارس بنفس النمط كل يوم.

 

استمرت “فاطمة” في مهنة تربية المواشي، رغم الجهد الكبير الذي تبذله، والذي تارة يؤتى ثماره وتارة يذهب سدى، لكنها في خضم ذلك استطاعت استكمال بناء المنزل وتوفير احتياجات الأسرة.

 

بين الأمس واليوم

 

بالرغم من الصعوبات التي لاقوها، عاشت فاطمة وأولادها حياة الأسرة القوية المترابطة، فكبر أولئك الصغار وفرقتهم صروف الحياة وأشغالها، فظّلت فاطمة وحيدة إلّا من ماشيتها التي تحاول مع كبر سنها أن تهتم بها وترعاها، وهو ما بات بادٍ وملحوظ على صحة وإنتاجية ماشيتها، حيث يُعرف لبنها بمذاقه وجودته العالية في منازل قريتها، كما تتميز بجودة السمن الذي تبرع في إعداده بالطريقة التقليدية.

 

من واقع عملها في تربية الماشية، تشير “فاطمة” إلى أنها تواجه صعوبات عدّة، أبرزها تعرض ماشيتها للأمراض ووفاة صغارها بعد ولادتها بأيام، إضافة إلى دفع تجار المواشي ثمنًا بخس عند شرائهم المواشي من الناس، وهو الأمر الذي يجعل فكرة التخلي عن تربية الماشية تراودها، حيث تواصل حديثها: “يأتوا يشتروا بالسعر اللي يناسبهم, ولا يقدروا تعبك وشقاك”.

 

تبقى فاطمة غيض من فيض لأمثلة ونماذج كثيرة للمرأة الريفية التي تمتهن تربية الماشية جاعلة من هذا العمل نمط حياة تعيل به نفسها وأهلها وما تلك التجاعيد بيديها إلا شاهدا يروي تفاصيل كل لحظة كد وتعب ويتوارى بين ثناياها عمر ضائع وهب لغيره الحياة.