في محل صغير مصنوع من الصفيح، في مدينة الجراحي، شرقي محافظة الحديدة، يجلس المهندس وليد الهاملي ممارساً مهنته في برمجة وصيانة الهواتف المحمولة، متحدياً إعاقته الحركية الجزئية التي يعاني منها نتيجة إصابته بضمور في عضلات الساقين منذ سنوات، بعد أن حالت ظروف الحرب وتحدياتها المختلفة دون حصوله على العلاج اللازم لحالته الصحية.
يروي وليد (34 عاماً) أنه وُلد وهو يعاني من ضمور في عضلات الساقين، كمرض وراثي، ولكن تفاقمت حالته ببطء مع مرور السنوات ولم يصل إلى مرحلة استخدام الكرسي المتحرك في تنقّلاته إلا عام 2013، بعد إتمام دراسته الجامعية وحصوله على البكالوريوس في برمجة الكومبيوتر من جامعة الحديدة الحكومية.
يقول: “كنت أمشي على قدميّ، لكن تفاقمَت حالتي الصحية حتى أصبحتُ أستخدم كرسياً متحركاً، والصعوبات التي أنتجتها الحرب أثّرت على حياتي بشكل سلبي، فلم يعد بإمكاني الخضوع للعلاج الفيزيائي بما يناسب حالتي، ويخفف من تفاقمها، في ظل صعوبات الانتقال إلى مدينة الحديدة، إضافة إلى إغلاق مركز العلاج الطبيعي الوحيد الذي كان يعمل بالتعاقد مع ‘صندوق رعاية وتأهيل المعاقين’ (هيئة حكومية) في مدينة الحديدة”.
المحل الخاص بوليد
عَمَل وليد في صيانة الهواتف المحمولة هو عمله الثاني الذي يمارسه لإعالة أسرته المكوّنة من ثلاثة أفراد. هو أيضاً يعمل مديراً لإدارة ذوي الإعاقة في مكتب وزارة حقوق الإنسان في الحديدة، ويسعى بقدر استطاعته إلى رفع أصواتهم للجهات المعنية. “المعاناة التي يعيشها الأشخاص ذوو الإعاقة، بمَن فيهم أنا، تفوق الوصف والتعبير. فأنا رغم معاناتي من إعاقة جزئية إلا أنني حُرمت من أبسط الاحتياجات”، يوضح.
كل يوم، يركب على دراجة نارية، خلف سائقها، ليذهب إلى عمله. فاستخدام الكرسي المتحرك في شوارع غير إسفلتية وأخرى إسفلتية مليئة بالحفر والعراقيل يحدّ من قدرته على التحرك بشكل بالغ. هذا مثال بسيط يطرحه ليعبّر عن عدم قدرته على الحصول على الحق في التنقل والحركة الذي يُفترض أن يكون بديهياً.
ويؤكد وليد أن المعاناة التي أفرزتها الحرب على ذوي الإعاقة فاقمت أوضاعهم بشكل مأساوي، في ظل تراجع الخدمات التي كانوا يحصلون عليها من “صندوق رعاية وتأهيل المعاقين“، وهو المؤسسة الحكومية الرئيسية التي تقدّم الخدمات لأبناء هذه الفئة الهشّة.
قبل اندلاع الحرب، وخصوصاً خلال فترة دراسته الجامعية، كان وليد يتلقى مستحقات دراسية من الصندوق المذكور، بواقع 200 ألف ريال يمني (نحو 800 دولار) سنوياً. أما الآن، وبالرغم من رغبته في دراسة الماجستير، إلا أنه لم يستطع الحصول على مقعد دراسي على حساب الصندوق، يشرح.
حين تفاقمت حالته الصحية وبدأ يشعر بضرورة الحصول على علاج فيزيائي، طلب وليد الحصول على جلسات علاجية، و”لكن إجراءات ‘صندوق رعاية المعاقين’ المركزية تأخذ وقتاً طويلاً بسبب مركزية القرار في صنعاء، لذلك أغلق المركز قبل أن أحصل على العلاج، كما لم أحصل منهم على علاج مقوٍّ للعضلات وصفه لي الطبيب”، يروي.
مأساة 4.5 ملايين شخص
وليد الهاملي قصة واحدة من ملايين القصص التي يعيشها ذوو الإعاقة في اليمن. تغيب الكثير من تفاصيل هذه المعاناة عن الإعلام اليمني والدولي في ظل تركيز الاهتمام على أخبار الحرب المندلعة بين جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) والحكومة المعترف بها دولياً منذ أكثر من سبعة أعوام، والتي خلّفت مأساة إنسانية.
تشير رئيسة المؤسسة العربية لحقوق الإنسان (مؤسسة حقوقية يمنية) رجاء المصعبي، وهي من ذوي الإعاقة وخبيرة دولية في شأن هذه الفئة، إلى أن “الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن كغيرهم من اليمنيين يعانون من أوضاع صعبة، فمنهم من شُرّد من منزله بسبب الحرب وأصبح نازحاً سواء في مخيمات النزوح أو في منازل الإيجار الواقعة في مناطق بعيدة عن الصراع”، مشيرةً إلى أن الخدمات المقدَّمة لهم ضئيلة جداً مقارنة بأوضاعهم الصعبة.
وتلفت المصعبي إلى أن الحرب وشحّ الإمكانيات حرمت الكثيرين من ذوي الإعاقة في اليمن من الخدمات، بما فيها التعليمية والصحية التي كانوا يحصلون عليها من “صندوق رعاية وتأهيل المعاقين”، موضحةً أن “جميع ذوي الإعاقة يعانون من أوضاع سيئة، سواء أكانوا قاطنين في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة أنصار الله أم في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً”.
ويوضح “صندوق رعاية وتأهيل المعاقين” أن تأثير الحرب أدّى إلى انخفاض ميزانيته بأكثر من 50%، ما تسبب بتراجع الخدمات المختلفة التي يقدّمها وتوقّف الكثير منها، إذ توقفت أكثر من 121,637 خدمة في مجالات الصحة والتعليم والمساعدات المالية وإعادة التأهيل، والخدمات الاجتماعية والثقافية.
إلى ذلك، تضررت جرّاء الحرب منظمات ومؤسسات المجتمع المدني المحلية المعنيّة بتقديم الخدمات للأشخاص ذوي الإعاقة، وتراجَعَ مستوى نشاطها في تقديم الخدمات، إذ يلفت “صندوق رعاية وتأهيل المعاقين” إلى أن عدد المنظمات والجمعيات المحلية النشطة التي يتعاون معها يبلغ حالياً 48 مؤسسة، مقارنة بـ200 مؤسسة وجمعية قبل عام 2015.
ولم تتسبب الحرب بمفاقمة أوضاع ذوي الإعاقة فحسب، بل أدت إلى تزايد أعدادهم بشكل ملحوظ. فبحسب تقديرات منظمة الصحة العالمية، عام 2019، تصل نسبة ذوي الإعاقة في اليمن إلى 15% من إجمالي السكان، ما يعني أن عددهم يبلغ نحو أربعة ملايين ونصف المليون. ويمكن بطبيعة الحال توقع أن عددهم أكثر من ذلك، بالنظر إلى أن الحرب لا تزال مستمرة.
وكانت تقديرات سابقة للمسح الوطني الصحي الديموغرافي لعام 2013، قد أشارت إلى أن نسبة ذوي الإعاقة بلغت في ذلك الحين 3.2% من إجمالي عدد السكان.
تتفاوت تقديرات أعداد ذوي الإعاقة في اليمن، ولا توجد إحصاءات دقيقة بشأنهم، وذلك يعود إلى جملة صعوبات، أبرزها عدم وجود أي مسوحات ميدانية حديثة تستهدف جمع بيانات عن هذه الفئة، كما يوضح الناشط الحقوقي طارق المصباحي.
ولكن رغم تقاطع مختلف الأرقام على أن نسبتهم مرتفعة، فإن المسجّلين منهم لدى “صندوق رعاية وتأهيل المعاقين”، منذ تأسيسه عام 2002 لغاية العام الماضي يبلغون فقط 101,386 شخصاً، بينهم 37 ألفاً و162 طفلاً (59% منهم من الذكور)، فيما يبلغ عدد المسجلين البالغين 64 ألفاً و224 شخصاً (67% منهم من الذكور)، وتتوزع أنواع إعاقات المسجَّلين بين الإعاقة الحركية، العمى، الصمم والبكم، الإعاقة العقلية، والإعاقات المزدوجة.
ويردّ المصباحي هذا الأمر إلى ضعف موارد الصندوق المالية، مبيناً أنه “لا يستطيع بإمكانياته الحالية إجراء مسح شامل لكل مناطق اليمن”.
ويضيف أن الصندوق يقدّم خدماته بشكل أكبر لذوي الإعاقة القاطنين في المدن، وهم مَن يتم تسجيلهم، في حين أن معظم ذوي الإعاقة القاطنين في المناطق اليمنية النائية (الريفية والجبلية) ليسوا مسجلين لديه، وهو “في الواقع لا يستطيع الوصول إلى كل المناطق الريفية والجبلية”.
حقوق على الورق
عام 2008، صادق اليمن على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وسبق ذلك إصدار “قانون رعاية وتأهيل المعاقين”، ثم أعدّت الحكومة “الاستراتيجية الوطنية للإعاقة (2014-2018)” التي حددت إطاراً لسياسة وطنية تهدف إلى إشراك ذوي الإعاقة ودمجهم في المجتمع لتغذية جهود أهداف التنمية المستدامة في اليمن. لكن سنوات الصراع المستمر حتى الآن جعلت من هذه الاستراتيجية وغيرها من الخطط مجرّد حبر على ورق.
تُرجع منظمة اليونيسف أسباب عدم تنفيذ تلك السياسات والخطط الحكومية إلى الصراع المندلع منذ عام 2015، وتعطُّل الهياكل الخاصة بتنفيذ اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة نتيجة نقص التمويل، والتمزق والانقسامات داخل الحكومة، وصعوبة تقديم الخدمات والبرامج، وهو ما أكده أيضاً مدير إدارة ذوي الإعاقة في وزارة حقوق الإنسان في صنعاء توفيق الثوابي.
يلفت الثوابي إلى أن فئة ذوي الإعاقة في اليمن لم تحصل على حقوقها الأساسية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية في ظل الاستقرار السياسي، ثم أتت الحرب و”العدوان” لتزيد تفاقم مشاكلهم، مشيراً إلى أن الحرب أثّرت على هذه الفئة نفسياً وجسدياً وصحياً واجتماعياً، وتسببت بزيادة عددهم بأكثر من 100 ألف شخص، بين آذار/ مارس 2015 وتموز/ يوليو 2019، وهي الحالات التي كشف عنها، في لقاء سابق، المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة العامة والسكان في حكومة الحوثيين.
“رغم ما تضمنته القوانين والتشريعات اليمنية، خصوصاً قانون رعاية وتأهيل المعاقين لعام 1999، إلا أنهم يفتقرون حالياً إلى أبسط الخدمات الأساسية كالتعليمية والصحية والاجتماعية والثقافية”، يقول الثوابي موضحاً أن “خدمات الدمج في التعليم التي كانت إنجازاً مهماً لذوي الإعاقة توقفت نتيجة الحرب في 2015، بعد أن كانت مدعومة من الصندوق الاجتماعي للتنمية”، وهو هيئة حكومية أنشئت للمساهمة في تحقيق أهداف خطة الدولة الاجتماعية والاقتصادية والحد من الفقر.
أطفال يمنيون من ذوي الإعاقة في محافظة ريمة – تصوير إبراهيم شاحط.
محاصَرون بـ”التجاهل والخذلان”
تفيد رجاء المصعبي بأن المنظمات الدولية التي عملت وتعمل في اليمن لدعم ذوي الإعاقة، أثناء سنوات الحرب، هي منظمة الإعاقة الدولية التي تقدّم بشكل خاص تجهيزات لبعض المستشفيات الحكومية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر التي توفّر دعماً لمراكز للعلاج الطبيعي (الفيزيائي) وتزوّد مراكز صناعة الأطراف الصناعية بالمواد الخام وتؤهّل وتدرّب الكوادر العاملة في تلك المراكز إضافة إلى تقديم الأجهزة التعويضية كالكراسي المتحركة وغيرها.
وتقدّم منظمة “أطباء بلا حدود” الدعم النفسي لجرحى الحرب الذين يخضعون للعلاج في المستشفيات، ومن المحتمل أن تتسبب لهم إصاباتهم بإعاقات دائمة، فيما نفّذت منظمة اليونيسف مشروعاً يقدّم الدعم المالي للأطفال من ذوي الإعاقة، وفقاً للكشوفات التي يتم رفعها من قبل “صندوق رعاية وتأهيل المعاقين”، تضيف المصعبي.
ورغم الجهود التي تبذلها بعض المنظمات الدولية لصالح الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن، إلا أنها جهود هامشية مقارنة بالاحتياجات المادية والاجتماعية والتعليمية والنفسية الكبيرة التي يفتقرون إليها، بحسب المصعبي التي تلفت إلى أن غالبية المنظمات الدولية لا تقوم بدورها المفترض للتخفيف من وطأة الحرب على هذه الفئة.
ووثق تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية عام 2019 أن ملايين الأشخاص من ذوي الإعاقة في اليمن يتعرضون للتجاهل والخذلان والإقصاء، وأن كثيرين منهم يواجهون صعوبات مضاعفة بسبب اضطرارهم إلى الفرار من العنف، والعيش في مناطق النزوح، كما تعترضهم عقبات إضافية في نيل الخدمات الأساسية اللازمة لصحتهم وسلامتهم وحمايتهم.
وعن دور وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية تجاه ذوي الإعاقة في اليمن، قالت منظمة اليونيسف في “خارطة المساعدات المتاحة للأطفال ذوي الإعاقة في اليمن“، التي نشرتها في كانون الأول/ ديسمبر 2020، إن نتائج دراسة حديثة أجرتها “منظمة الإعاقة الدولية” أظهرت أن 85% من المنظمات الدولية في اليمن لم تنفّذ أو تموّل أي أنشطة موجهة لذوي الإعاقة.
وكشفت نتائج الدراسة أن 95% من المنظمات الدولية في اليمن لا تجمع بيانات مصنّفة بحسب الإعاقة، مؤكدةً أن “73% من المنظمات الدولية في اليمن ذكرت أن موظفيها يفتقرون إلى المعرفة والمهارات المطلوبة لتقديم الخدمات الإنسانية الحساسة لذوي الإعاقة”.
وأوضحت اليونيسف أن وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الفاعلة تقوم بدمج الأشخاص ذوي الإعاقة في مجتمعاتهم المستهدفة، لكن مستوى التخصص في مخاطبتهم يختلف من جهة إلى أخرى، وفقاً لسياساتها ومهامها وتفويضاتها، مشيرةً إلى أن “منظمة الإعاقة الدولية فقط تستهدف الأطفال من ذوي الإعاقة بمشاريع وبرامج مخصصة لهم”.
ويعمل عدد ضئيل من وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في مجال ذوي الإعاقة في اليمن، وفقاً لـ”خارطة المساعدات المتاحة للأطفال ذوي الإعاقة في اليمن”، وهي منظمة اليونيسف، المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، المنظمة الدولية للإعاقة، صندوق الأمم المتحدة للسكان، منظمة حماية الطفولة، واللجنة الدولية للصليب الأحمر.
نشر هذا التحقيق بالتزامن مع منصة عون وموقع رصيف 22