مضت ثلاثة عقود على رحيل رجل القطاع الصحي الطبيب “ابراهيم علي الحيث” إلا أن شواهد انجازاته ما تزال باقية في نواحي ريمة ومنشآتها الصحية، إذ أسس “الحيث” النواة الأولى للقطاع الصحي في مديريات ريمة مطلع الثمانينات من القرن الماضي، واتجه الى تأهيل وتوظيف الطاقات البشرية من أبناء المحافظة وعمل على إدارة الملف الصحي بكل جدارة.
يقول مستشار وزير الاتصالات وتقنية المعلومات الاستاذ محمد قشره، 57عامًا، وهو أحد أصدقاء الحيث المقربين: “كان إبراهيم الحيث يعمل بكل اخلاص من أجل خدمة القطاع الصحي في ريمة، وقد عمل على تدريب العشرات من الشباب والفتيات على مستوى مديريات المحافظة، وقام بتأهيلهم في مجالات الصحة والإرشاد الصحي على أيدي خبراء يمنيين وأجانب، ومن ثم توظيفهم من أجل تقديم الخدمات الصحية في مناطقهم”.
ويضيف قشرة في حديثه لـ “ريمة بوست” أنه ما يزال يتذكر حرص “الحيث” على تحسين العمل الصحي بكل مجالاته من خلال التنسيق مع المنظمات الدولية لتوفير الخدمات الصحية وتدريب وتأهيل العشرات من القابلات الصحيات ليعملن في مستوى مناطقهن على تقديم خدمات الصحة الإنجابية الطارئة للنساء، مشيرًا إلى أنه “عمل بكل جد في خدمة قطاع الصحة في المحافظة وكان له دور كبير في تحققت من إنجازات”.
خلال تلك الفترة لم تكن مسألة إلحاق الشباب والفتيات بالمعاهد الصحية لتدريبهم وتوظيفهم في القطاع الصحي، أمرًا سهلاً في مجتمع ريفي ينظر إلى الوظيفة العامة من زاوية المثل الشعبي القائل “من خدم الدولة ما دفن أمه” أي من التحق بالوظيفة العامة قيّدته مسؤولياتها ولا يستطيع حتى دفن والدته إن توفيت.. غير أن ” الحيث” بذل جهود حثيثة من أجل تشجيع الأهالي وإقناعهم بتعليم وتوظيف أبنائهم وبناتهم الذين كانت وظيفتهم الأساسية العمل في الحقول والمزارع.
شاب طموح
في قرية الحيث بمديرية الجبين، ولد “ابراهيم علي محمد الحيث” عام 1952م، وتربى في أسرة تهتم بالتعليم رغم ندرته، وكان والده متعلمًا أيضًا، تلقّى “إبراهيم” تعليمه الأساسي في مدرسة “الحيث” الابتدائية التي تعتبر من أوائل المدارس في المديرية، وكان والده “علي محمد” شيخًا على عزلتي بني بلحوت والقبلية، عُرف عنه حرصه على إلحاق أبنائه بالتعليم في المدارس الأساسية التي تأسست بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م، وكان عددها في ريمة آنذاك لا يتجاوز أصابع الكف.
بعد تخرج “إبراهيم الحيث” من مرحلة التعليم الأساسي، وحصوله على معادلة شهادة الثانوية العامة من وزارة المعارف؛ بدأ حياته العملية في إدارة مستشفى الثلايا في مديرية الجبين، الذي بُني في سبعينيات القرن الماضي، بتمويل من دولة الكويت، وكان “الحيث” الشاب الطموح أول من تقلّد إدارته لعدة سنوات، قبل أن يحصل على قرار التعيين رسميًا في 1981م.
ويعتبر مستشفى الثلايا في الجبين أول مستشفى في محافظة ريمة، حيث ضم العديد من الأقسام الطبية، كما تم تزويده بالكوادر الطبية الأجنبية من جنسيات مختلفة، إضافة إلى توفير العديد من الأجهزة والمعدات الطبية الحديثة التي جعلته مؤهلاً لتقديم خدمات طبية متعددة، وإجراء عمليات جراحية، وكان لإدارة الرجل جهودًا ملموسة فيما حققه المستشفى آنذاك.
يقول نجله “أمين”، 44 عامًا: “عمل والدي مديرًا لمستشفى الثلايا وعمل على تطويره وتجويد خدماته وكان يعتبر أحد المستشفيات المتميزة بالكادر والأجهزة، وكانت تجرى فيه العمليات الجراحية”.
ويضيف لـ “ريمة بوست”: “بعد متابعة الوالد حصل المستشفى على جهاز تخدير حديث خاص بالعمليات وقد كان في وزارة الصحة جهازين فقط، جهاز لهذه المستشفى والآخر لمستشفى الثورة في صنعاء”. ويشير إلى أن “من الانجازات وفر سيارات الاسعاف ومولدات كهرباء وثلاجة للموتى وهي الوحيدة التي ما زالت موجودة حتى الآن”.
بال متيقظ
في 1983م عُيّن “إبراهيم الحيث” مديرًا عامًا للخدمات الصحية والطبية بقضاء ريمة، بقرار من وزير الصحة حينها الدكتور محمد أحمد الكباب، وقد كانت مهمة إدارة قطاع صحي في مناطق ريفية نائية أمرًا بالغ الصعوبة، لكنه بدا على قدر تلك المهمة، ليبدأ مشواره بكل عزم واقتدار من أجل خدمة الإنسان في كل المناطق بالرغم من الصعوبات التي فرضتها الجغرافيا الجبلية الصعبة والواقع الصحي بشكل عام.
مثّلت إدارة الخدمات الصحية والطبية إلى جانب إدارة مستشفى الثلايا، مرحلةً جديدة في حياة “الحيث” مليئة بالمسؤوليات، غير أنه استطاع المراوحة بينها، إذ يشير نجله: “الوالد – رحمه الله – عاش متنقلاً بين مديريات قضاء ريمة (كانت حينها ريمة تتبع إداريًا محافظة صنعاء) لتلمس احتياجات القطاع الصحي ومن ثم السفر إلى العاصمة صنعاء لمتابعة توفير تلك المتطلبات الضرورية”.
خدمة المجتمع وتطوير القطاع الصحي كان هو الهدف الأسمى الذي آمن به “الحيث” أثناء عمله في إدارة الخدمات الصحية والطبية، فعمل على توفير الخدمات الصحية عبر إنشاء مستشفى “صرع” في بلاد الطعام، والعديد من المراكز والوحدات الصحية في مديريات ريمة.. “كان يحمل همّ ريمة، ودائما نشطًا في عمله، كان إذا احتاجت منطقةٍ ما، لأي خدمةٍ لا يهدأ له بال حتى يستطيع تقديم تلك الخدمة وكأنها دينٌ عليه ووجب رده”، يردف أمين.
يستذكر “أمين” أحد المواقف التي مرت في حياة والده العملية “إحدى المرات وقعت حادثة انفجار أسطوانة غاز في منطقة بني أبو الضيف، وأصيب العديد من الأشخاص إصابات بالغة وخطيرة، ولأنه لا توجد طرقات واسعاف المصابين يحتاج إلى ساعات طويلة، قام والدي بالتواصل مع وزارة الصحة بصنعاء وألح على توفير طائرة هيلوكوبتر، وبالفعل تم إرسال طائرة لإسعاف المصابين.. لذلك الموقف هذا لا يزال في ذاكرتي واكرة الناس”.
رجل التنمية
لم تشغله الوظيفة العامة عن الانخراط في الأنشطة المجتمعية لتعزيز وتحسين كل مجالات التنمية، بل كان أحد الشخصيات الاجتماعية التنموية الشابة التي برزت في ريمة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وكان لها دورًا في تأسيس الجمعيات التعاونية التي ازدهرت حينها وساهمت في الدفع بعملية التنمية الريفية نحو الأمام، في مجال الطرقات والمياه والصحة والتعليم وغيرها من المشاريع.
يستطرد نجله “كان يعمل على استغلال كل الإمكانات التي يصادفها بهدف تنمية ريمة، فقد عمل على استقطاب المنظمات لدعم افتتاح مراكز لتعليم الكبار، وانشاء مراكز تعليم الخياطة والحرف اليدوية، كما قام بتوفير بعض مشاريع المياه بدعم من المنظمات رغم وجود معارضة محدودة لبعض تلك الأعمال”.
استمر “إبراهيم الحيث” في مسيرته العملية والتعليمية في آن معًا، فحصل على دبلوم في الإدارة الصحية من المعهد العالي للصحة العامة بجمهورية مصر العربية في 1990م، كما حصل على العديد من الدورات التدريبية في المجال الصحي إضافة إلى الشهادات التكريمية التي نالها نتاج جهوده الملموسة في إدارة الخدمات الصحية بريمة، وإدارة مستشفى الثلايا.
فاجعة الرحيل
في 1991م توفي “إبراهيم الحيث” بحادث مروري، أثناء ما كان متجهًا إلى العاصمة صنعاء في مهمة رسمية لمتابعة بعض الاحتياجات المتعلقة بعمله الصحي، تاركًا خلفه وزوجتين، و 12 طفلاً، 8 ذكور، 4 إناث، أكبرهم “عادل” والذي تحمل مسؤولية الأسرة، وكان بمثابة الأخ والأب لأشقائه، حد وصف شقيقه “أمين”.
بدا رحيله مؤسفًا وموجعًا لكل من عرفه، فكُتبت فيه المراثي والتعازي التي تبيّن المكانة الرفيعة التي تبوأها في قلوب أصدقائه وزملائه ومحبيه، أبرزها قصيدة رثاء كتبها، إسماعيل حسين الكبسي، وكيل محافظة صنعاء لشؤون قضاء ريمة خلال تلك الفترة، ونشرتها صحيفة الثورة، نورد جزءًا منها:
سمعتُ نذير النّبأْ فـ انقسمْ أمامي شموخ الجبي وانهدمْ
وخرَّ ظلملم من هولِه صريعًا وناحتْ جبال العنمْ
وكسمةُ نبّت بما مسّها من الحزن في فقدهِ والألمْ
وماجتْ علوجة في نعيهِ دموعًا؛ وهدَّ الرباط الندمْ
وأبلى بلاد الطعام الأسى وسالت مسايل كدفان دمْ
وعزان زَلزلهُ حزنهُ عليهِ؛ وفتّتَ نوفان غـــمْ
نعم قد رأيت شموخ الجبال بريمة شاخت وخارت قممْ
رأيت الحقول وأودانها هشيمًا وكـــل نبــــاتٍ حِممْ
فلا تعجبوا ليس هذا سوى قليلاً بحـــــــق فقيـد الكــرمْ
فإبراهيم كان في ريمةٍ فؤادًا لها نابضًا بالهِممْ
وكان منارًا لأبنائها وبَرًّا بها، موفيًا بالذممْ
وإن طلبت ريمةٌ مطلبًا غدا عندهُ الأمر دَينًا وهمْ
وإن عزَّ في الناس عزمٌ لِما يزيدُ البلاد نموًا؛ عزمْ
وإن قعدَ الناس فهو الذي يقومُ، وإن هُم تراخوا قَدَمْ
وإن كلفّت ريمةً غيرهُ بشـــــيءٍ تحمّلهُ والتـــزم
وإن غاب عن ريمة شخصه فإنجازه ظاهرًا كـ العَلَمْ
وإن فقد الناس إحسانه فإحسانهِ بالقلوب ارتسمْ
إرث لا ينسى
تميزت شخصية “إبراهيم الحيث” بالتواضع وحسن المعاشرة مع أسرته وكل من عرفوه، فكان لأولاده الأب والصديق الذي يشجعهم على التعليم والاعتماد على النفس، والعمل بأنفسهم دون الركون إليه، وكان يرد إذا ما سأله أحد عن سبب ذلك، قائلاً “لابد أن يعتمدوا على أنفسهم كما الآخرين، فأنا اليوم عندي القدرة للوقوف بجانبهم ولكن من أجل لو حدث لي شيء وتبدلتِ الظروف يكونون معتمدين على أنفسهم”.
يستطرد نجله أمين “لم نشعر بالدلال الكثير واعتمدنا على أنفسنا وتعلمنا ومارسنا حياتنا كما كان يتمنى رحمه الله.. والآن جميعنا متعلمين، اثنين منّا حاصلين على درجة الماجستير، وخمسة حاصلين على درجة البكالوريوس، وواحد حاصل على دبلوم ما بعد الثانوية”.
لم يورث الحيث لأسرته إرثًا ماديًا يتلاشى بمرور الزمن بل ترك لهم إرثًا ثقيلًا من السيرة العطرة والمواقف الإنسانية الباعثة للفخر، حد تعبير نجله الذي يرى أن “السمعة الطيبة وأعمال الخير هي الثروة الحقيقية”، فحيث ذهب يجد الناس يتداولون مواقف والده الذي لم يألوا جهدًا في خدمة المجتمع بكل تفانٍ وإخلاص.