ريمة جنة الطبيعة وجحيم الحياة

‏  6 دقائق للقراءة        1189    كلمة

محافظةٌ أم وطن؟ قريةٌ أم مدينة؟ حديقةٌ معلقةٌ أم جزيرةٌ ساحرةٌ لا تطل على بحرٍ لكنها تطل على السماء وتساهم في توزيع غيومها لتروي ظمأ الأرض والبحار؟

 

كلما خطر في بالي الحديث عن ريمة تتزاحم الكلمات في مخيلتي وتتسع حدقات روحي ..فهي ليست مجرد محافظة أنتمي إليها فقط . بل هي مسقط رأس الدهشة وأغنية تتأرجح بين الأرض والأفق. أغنية لحَنَها النسيم العذب، وكتبت كلماتها الطبيعة على صفحات الجبال، وتغنى بها الماء، وصفقت الغيوم في مهرجان ربيعها الذي لا ينقطع.

 

ريمة ذاكرة الجمال الباقية في هذه الأرض وآخر واحاتها البكر وأجمل البساتين التي يحتمي جمالها من توحش الإنسان بوعورة تضاريسها المتنوعة..ريمة عروس الأرض الغجرية، الخارجة من كتب الأساطير، والمختبئة في أقصى الجغرافيا اليمنية والمتصالحة مع الغيم والماء والعصافير، تجد فيها المشاعر مرعىً خصباً لغزلانها، وتجد القلوب في شعابها أعشاش الحب، وفيها تزهر مواقيت العناق في مخيلة العاشق وهو يستلقى على عشبها أو يحتمي بظل أشجارها من هجير الحياة.

 

في ريمة تكتنز الحياة بالتفاصيل وتبتكر الألوان مضامينها كل يوم بعد أن تغمسها في محبرة الطبيعة الأنقى..وفي ريمة للأريج مواعيده اللامتناهية مع حواس الغيوم وفيها ايضاً تنهل الطيور أغاريدها من أهازيج الفلاحين في الحقول وتتمايل الأشجار مع مهاجل الرعاة,ويكفهر وجه السماء كلما استلَّتِ أمرةٌ نصل حنينها وأطلقتهُ في الفضاء على هيئة أغنية قصيرة تختصر مجلدات من العشق واللوعة والفراق وهي تودع بوح روحها بدموعها وتغمده في بريد الضباب الذي يروح ويجي وكأنه ساعي بريد الأحبة الذين غابوا عن الوطن.

تلك هي ريمة حياة تنضح بالصفاء وترتوي غاباتها ووديانها من دموع العشق السرمدي..وكأنها لوحة تتداخل فيها المدارس الفلسفة لكل الفنون، فهي مزيج بين الواقعية الساحرة والسوريالية الغامضة والرومنسية الحالمة والتجريدية التي ظلت عصية على فهم الزمان والإنسان.

وهي في ذات الوقت لون آخر من الفن لا يعلم بأسراره غير من نبت وتشكل من ترابها أو من تعفر بتفاصيلها واستحم بعذوبتها الرقيقة حد الذهول والعصية حد المستحيل.

 

إن جئتها من الأسفل وجدتها سجادة تصعد بك إلى أعالي اليقين، وإن شاهدتها من الأعلى وجدت جبالها وسهولها تتراءى  كسرب صقور صاعدٍ إلى سدرة المنتهى في شموخ وكبرياء.

 

وبعيداً عن الغوص في تفاصيل الجمال التي لا حدود لها، دعوني أحدثكم عن هذه البلاد التي ضلت التنمية الطريق إليها، فلاتزال حتى اليوم محرومة من أبسط مقومات الحياة والخدمات في حدودها الدنيا كالطرق والمستشفيات والمدارس وغيرها.

 

هذا الحرمان الذي انعكس سلباً على حياة الناس فيها وكان سبباً في إهدار ما تكتنزه من ثروات طبيعية ومساحات زراعية وسياحية لا نظير لها في عموم اليمن. وذلك عبر حالة اليأس التي دفعت الكثير من أبناءها للهجرة ومغادرتها للاغتراب بحثاً عن حياة كريمة وسهلة أسوة بغيرهم من أبناء الوطن.

 

ولم يكن قرار الاغتراب والهجرة خياراً سهلاً عليهم لشدة ارتباطهم بها، لكنه كان ضرورة فرضها الواقع  بعد أن حاولوا التعايش معه وابتكار وسائل شتى تساعدهم على نقل احتياجاتهم من المدن عبر وسائل بسيطة تحاكي حداثة العصر خارج المحافظة.

 

من ذلك اختراع “التلفريك” وتشغيله بوسائل مختلفة عن تلك التي يعرفها الناس..فلم يستخدموا الكهرباء بل محركات السيارات وقد كادت التجربة أن تخفف الكثير من معاناتهم إلا أن تكاثر الأزمات، وانعدام المشتقات النفطية المتكررة التي كانت تساعدهم على تشغيل هذه التلفريكات قد أنتجت حالة من القنوط والإهمال لهذه الوسيلة الحديثة الوحيدة التي ابتكروها، ما تسبب في تعطل بعضها وبقاء القليل منها قيد مقاومة لن تطول.

تلفريك لنقل البضائع الى السكان في إعالي الجبال بالجعفرية ريمة

 

ولكم أن تتخيلوا أن محافظة كاملة هي من أجمل المحافظات والواجهات السياحية والأراضي الخصبة التي لم يزحف القات على مساحاتها الزراعية بعكس غيرها لا تجد أدنى رعاية من الحكومة أو قيادة المحافظة أو المنظمات. ولا حتى ممن يملكون رأس المال من أبناء المحافظة.

 

كل هذه التراكمات والتدني في مستوى الخدمات جعل من هذه المحافظة جنة غنية ومجهولة لا يقصدها أحد يخفت بريقها وتذوي فيها فرص الحياة مهددة بالتصحر..فمن بإمكانه أن يزور محافظة للسياحة مثلاً وهو يعلم أنه لن يجد بها فندقاً يأويه أو مطعماً يتزود منه بالغذاء ؟

 

والمشكلة الأهم والأكبر هو التراجع المخيف في نسبة الملتحقين بالتعليم من الذكور والاناث لعدم توفر المدارس الكافية ووسائل النقل والكوادر التعليمية المؤهلة. إضافة لمعاناة السكان في التنقل من مديرية إلى أخرى وما يتكبده المغتربون من مشقة في طريق عودتهم إليها لقضاء إجازاتهم.

فتاة في مديرية مزهر تساعد والدتها في تربية الابناء

وأما المعاناة الصحية فحدث ولا حرج، ولك أن تتخيل أن محافظة يصل عدد سكانها إلى المليون نسمة وأكثر، ليس فيها مستشفىً واحداً مجهزاً لاستقبال الحالات المرضية البسيطة، وحلات الولادة المتعسرة في أعلى تقدير،فقد تموت المرأة في الطريق قبل أن تصل إلى أقرب وحدة صحية تفتقر لأدنى مستوى من العدة والكادر!

 

نحن أمام مفارقة مرة حين نتحدث عن هذه المحافظة الجميلة والغنية بما تمتلكه من ثروات طبيعية،  وما تفتقر إليه من خدمات تساعد على استغلال هذه الثروة المهدورة والمهددة بالتلاشي كلما تقادم الزمن، وأغمضت الجهات المختصة نظرها عن الاحتياجات التي ينبغي توفرها، وصمَّتْ آذانها عن صرخات أبناء المحافظة من الحريصين على البقاء فيها، التمسك بها ولم يدركهم اليأس كما فعل بمن قبلهم.

حاولت في هذه الكتابة التطرق لجزئيات مختلفة من ملامح المكان ومعاناته برؤوس أقلام تحتاج كل جزئية فيها لكتابة مستقلة تشرح وتفصل كل شيء على أمل أن تجد هذه الكتابة من يقرأ ويتفاعل ويبادر بالحلول اللازمة لتلافي ما يمكن تلافيه من ثروات هذه الجنة المنسية التي يعيش سكانها حياة الجحيم .ريمة جنة الطبيعة وجحيم الحياة