في زاوية الغرفة تجلس بشرى، وفي عينيها دموع لا تكاد تجف منذ دقائق من إجرائها مكالمة هاتفية بأطفالها الثلاثة الذين حُرمت منهم عنوةً قبل ما يقارب ثلاثة أشهر، تحاول بشرى في حديثها كبت جماح دمعتها وإخفاء شعور شوقها لأطفالها إلا أن صوتها المبحوح يقول كل شيء كامن في قلب الأم مهما أبدت من قوة وصلابة.
بشرى (اسم مستعار)، 33 عامًا، أم لثلاثة أطفال تسكن في منزل أهلها بريمة، بعد أن تركت منزل زوجها الذي يسكن في صنعاء، إثر خلافات عديدة وحياة زوجية لم تستطع تحملها إذ فاقت قدرتها على الصبر والجلدة خلال سنوات من زواجها الإجباري، والتي أنهته بتساؤلها “إلى متى بصبر؟ يكفي”.
زواج إجباري
بكفها تمسح آثار الدموع وتسرد قصتها: جاء واحد من أقارب أبي يخطبني لابنهم ساكنين بصنعاء، وابنهم هذا ضعيف شخصية ويعاني صعوبة في النطق ما يعرف من الحياة شيء، وأي بنت من المدينة لن تقبل به.
كان والدي يعرف جيدا أنني لن أكون سعيدة بهذا الزواج وأن ابن قريبه الذي يحترمه جدا ليس أهلاً لمسؤولية زواج وتكوين أسرة. كنت أبكي دائمًا رفضا لهذا الزواج، لأن الدموع هي وسيلتي الوحيدة للتعبير عن رفضي، خوفي من أبي جعلني أخشى الإفصاح عن رفضي، وكنت أعتقد أن أبي قد يقتلني لو قلت له “لا” بصريح العبارة.
أمي أيضا كانت تترجّى والدي أن يتراجع عن تزويجي لكنه لم يكترث لدموعي ولا لكلام أمي، بل كان رده دائما على كل من يحاول مراجعته عن قرار زواجي من ذلك الشخص “خلاص عيب قد خرجت كلمة”.
“تمت خطبتي وكانت فترة الخطوبة قصيرة، سافرت إلى صنعاء لشراء الكسوة والاحتياجات الأخرى، كنت أخرج برفقة قريبات لي لشراء الملابس وغيره… وكنّ هنّ من يخترن لي، وأنا أكتفي بالنظر والإجابة بـ”تمام” أو بهز رأسي بالموافقة على أن اختيارهن جيّد، وفي الحقيقة كنت أكره كل قطعة يقمن بشرائها”
عدت إلى البلاد “ريمة” أخرجتُ كل ما بداخل حقيبة الزفاف، وكنت أنظر إليها بابتسامة سخرية يعقبها خليط من مشاعر اليأس والحزن، إذ لم يبق إلا أياما معدودة على زواجي وسفري إلى صنعاء، لزواج رأيته انتكاسة لحياة لم أتوقعها.
“كنت أرملة وأطفالي أيتام، وزوجي على قيد الحياة”
أقيمت حفلة زواجي وعقد قراني وسافرت إلى صنعاء، زفوني إلى منزل الزوج الذي كان يقال لي أنه شبه أهبل، دخلت الغرفة وبقيت أبكي وأنا في فستان الفرح حتى الصباح، بينما العريس دخل إلى غرفتي ولم ينطق بأي كلمة بل وضع رأسه على الوسادة وخلد للنوم، وهذا الأمر قتل الأمل الذي كنت أحمله بداخلي، لعله يكون عكس ما قيل لي، أنه أهبل ولا يفهم من الحياة شيء، لكن للأسف وجدته كأنه تمثال من حجر لا يحمل أي مشاعر.
أدركت حينها أنني أموت وأنا على قيد الحياة؛ ظل زوجي على حاله كما هو لا يقترب مني إلّا بعد أن يطلب منه والده، ولا يقول لي كلاماً جميلا إلّا إذا شخص مقرّب منه، لقّنه وأخبره كيف يتحدث معي، ليصبح زواجي به بدون أدنى خصوصية يسيّرها أهله ووالده كيفما أرادوا. مرت الأيام وكنت أتقرب أنا منه وأمنحه مشاعري لعله يبادلني أو يكسر حاجز الصمت الذي يتقوقع بداخله، ولكن لم يتغير شيء.
حملت بطفلي الأول، وكان زوجي يعمل في مهنة حر، يعود منه في وقت متأخر كل مساء ويتقاضى ألف ريال يمني، ويسلمها لوالده وقت وصوله، وليس لي سوى الأكل والشرب، فوالد زوجي هو المسؤول عن المنزل، وإذا أردت شيء عليّ أن أطلبه من والد زوجي. ولدت طفلي الأول وكان الألم يزداد في يوما بعد يوم، لا زوجي يهتم ويعرف معنى الزوجة ومسؤولياتها ولا أهلي قريبين مني أستطيع اللجوء إليهم.
كبرا والد والدة زوجي في العمر فأقعدهما المرض، وتدهور الوضع ماديًا، وقمت على خدمتهما وتربية طفلي الأول، في حين كنت حامل بطفلي الثاني، فكان دوري في البيت أشبه بخادمة لا أكثر. بعد سنوات ولدت طفلتي الثالثة، وخلال تلك الفترة وبعد مكابدة المرض توفيا والد ووالدة زوجي تباعًا، وانقطع تواصلي بزوجي بالرغم من عيشنا في منزل واحد.
كبر أطفالي وهم يعرفون فقط أن ذلك الشخص الذي يأتي متأخرًا في المساء دون أن يتكلم هو والدهم. كانوا يرون الأطفال الآخرين بصحبة آبائهم يلعبون ويتحدثون معهم، فيعودون حزينين ويخبرونني “ليش يا أماه أبي ما يحبنا، ويجلس معانا، ونخرج معه، مثل عيال عمي، وعمتي”.
زوجي بطبعه منطويًا على نفسه، فترك أطفالي فاقدي لحنان الأب، بل كان حين يخبرهم أحد بالذهاب إليه ليعطيهم قيمة “جعالة” يردون “لن يعطينا”. حتى وصل بهم الحال لإخباري: “ليتك يا أماه تزوجتي واحد غير أبي، يكون يلبس نظيف، ويهتم بنفسه، زي أعمامي”.
كبر الأطفال وكبرت معهم طلباتهم واحتياجاتهم، ولم يكن زوجي يعطيني سوى خمسمئة ريال يوميًا وكانت لا توفر لنا أبسط شيء في ظل الوضع الصعب هذا. وأصبح الشقاء نمط حياتي أنا وأطفالي الذين اعتادوا على الحرمان شظف العيش والنوم بمعدة فارغة، وكنت أرملة وأطفالي أيتام، في حين زوجي على قيد الحياة.
تعنيف ذكوري يكرّس المعاناة
فكرتُ بالبحث عن عمل وبدأت بالبحث حتى وجدت عمل وسط معارضة الجميع، واعتبروا شغلي لأجل نفسي وعيالي تصرف خاطئ تحتب مبرر “عيب مره تشتغل…أيش بيقول الناس علينا”، وهم في الواقع لا يعرفون معاناتي أنا وأطفالي.
عملتُ كفرّاشة في إحدى المدارس وكان عليّ أن أوفق بين عملي في البيت ودوامي في المدرسة، أنهض مبكرًا لأعد الخبز في تنور الحطب الذي ينعدم وترتفع أسعاره وأعد الفطور وأرتب البيت وأجهز ابني للمدرسة. بعدها أذهب إلى المدرسة وأقوم بعملي حتى الثالثة عصرًا، فأعود إلى المنزل منهكة لأعد طعام الغذاء فأطفالي ينتظرونني جائعين.
أغلقت المدراس أبوابها بسبب جائحة كورونا، فانتقلت للعمل في أحد المستشفيات وتمكّنتُ من ادخار بعض المال في صندوق صغير (حصّالة)، لكني تفاجأت أن ما ادّخرته قد انسرق من غرفتي، وليس في المنزل سوى زوجي وأشقاء زوجي الذين يعارضون عملي ويتعمدون ايذائي والتدخل في كل خصوصياتي.
حينها فضّلتُ الاستقلال مع أطفالي في جزء من المنزل، وقمت بشراء بعض الأدوات والأثاث المنزلي، وهذا الأمر دفع أشقاء زوجي إلى التدخل في شؤوني أكثر وزوجي لا يهتم لأمري، بعد أن صبرت كثيرا وحاولت اللجوء لأهلي لتطليقي من زوجي، إلا أنهم دائمًا يشجعوني على الصبر من أجل أطفالي.
وقتها قررت جمع بعض المال من أجل تقديم قضية خلع من زوجي بعد أن رفض تطليقي. تسرب الخبر لأهل زوجي فبدأوا بنسج المكائد ضدي لمنعي من العمل، وكنت قد أخبرت إحدى صديقاتي أن تبحث لي عن عمل أفضل من المستشفى. أخبرتْ صديقتي أحد أقربائها عني وأعطته رقمي ليتواصل بي في حال وجد فرصة عمل مناسبة لي.
ذات يوم وصلتني رسالة منه تقول “يا أختي كان في عمل، أخبرت واحدة عليه، بس إن شاء الله في أقرب وقت ببلغك بعمل أفضل”، بعدها وقع هاتفي في يد أخ زوجي فقرأ الرسالة وبدأ باتخاذ الرقم حجة ضدي، وقام باتهامي بالتواص مع ناس غرباء، وأخذوا يرموني باتهامات باطلة بل إن أحدهم قام في تلك اللحظة بصفعي وتعنيفي أكثر من مرّة.
لم يحرك زوجي أو بقية أهله ساكنًا، بل أخذوا هاتفي وقاموا باستخدام حسابي على الواتساب، وتهديدي بأنه في حال ذهبت للمحكمة لرفع قضية خلع سوف يقومون بتلفيق تهم كاذبة ضدي وفضحي بها… وما يزال أحد أخوته حتى اللحظة يستخ
دم حسابي وينتحل شخصيتي بغرض تشويه سمعتي، وأن نية خروجي من البيت للعمل محض غطاء أواري خلفه خيانة أخيه.
طفولة مكسورة
بعد تلك الليلة أغلقوا عليّ الباب بالقفل حتى يأتي لها أهلي، وقاموا بتلقين زوجي ضدي، مستغلين شخصيته المنعدمة وعدم فهمه للأمور. أتى شقيقي لأخذي معه، حاولت أن آخذ أطفالي وبعض أغراضي، لكنهم منعوني من كل شيء، بل وقاموا بوضع جزء من ملابسي وضعوها بداخل “كيس” ورموه لي إلى خارج المنزل وقت وصول شقيقي.
كاد شقيقي أن يتعارك معهم، بسبب تصرفهم الخاطئ، لكني منعته خوفًا من المشاكل أكثر، وحاولت اللجوء لقسم الشرطة من أجل أخذ أطفالي وأغراضي فلم يقدموا لي شيء، حينها عدت إلى ريمة رفقة شقيقي وأنا مكسورة على فراق أطفالي الثلاثة، وما يزال صوت ابنتي ذات الأربعة أعوام عالق في مخيلتي وهي تبكي في نافذة المنزل تريد اللحاق بي.
عدت إلى أهلي وبالرغم من متاعب الريف ومشاغله إلا أنه أحب إلي من حياتي الزوجية التي تشبه السجن، فقد قضيت 13 عامًا كانت بمثابة كابوس يكسر مشاعري، وما زلت أنتظر الطلاق رغم رفض زوجي. وما يتعبني أكثر أن حالة أسرتي المادية لا تسمح بأمور التقاضي والمحاكم من أجل أخذ أطفالي وطلاقي من زوجي، ولكن سيتم ذلك يومًا ما.
وبالرغم من المعاناة التي تكبدتها بشرى إلا أنها ما زالت قوية في وجه الحياة، إذ تختم قصها: أصبح الطلاق بالنسبة لي حياة جديدة، أمل بفرصة ثانية أجمل، عشان أعيش مثلما أشتي، وما اسمح لأحد أيا كان أن يأخذ مني شيء أو يجبرني على شيء… لأني جربت ودفعت الثمن غاليًا.