تحت مظلة قماشية حمراء تقي الخضروات من حرارة الشمس، يجلس “نصر” ذو الثالثة عشر عامًا، صباح كل يوم ليراقب الأطفال وهم ذاهبون إلى المدرسة مع بدء العام الدراسي الجديد، وما إن يغيبوا عن مدى رؤيته حتى يعود للانشغال بخدمة الزبائن وتوفير طلباتهم من الخضروات والفواكه التي يبيعها رفقة مالك البسطة.
نصر أحمد، طفل من مديرية كسمة، أجبرته ظروف أسرته المعيشية إلى ترك الدراسة والسفر إلى مدينة الشرق بمحافظة ذمار، قبل ما يقارب ثلاثة أشهر، وهناك يعمل لدى مواطن من مديرية وصاب في بسطة لبيع الخضروات والفواكه.. “نجحك من صف سابع إلى صف ثامن لكن بطلك الدراسة وسافرت بعد عيد الحج، عشان أشقى على الأسرة”. يقول نصر.
ويضيف في حديثه لـ “ريمة بوست”، إنه يعمل في بسطة الخضار لما يقارب 13 ساعة يوميًا مقابل 30 ألف ريال يمني (50 دولار) شهريًا، من أجل توفير لقمة العيش له ولأسرته المكونة من والدته وشقيقاته الخمس، إضافة إلى والده الذي يعاني من مرض نفسي أفقده العقل والقدرة على الكلام، بعد أن تعرضه لصدمة نفسية.
يستطرد بأسى بادٍ في عينيه: بدأ مرض أبي قبل عشر سنوات، بعدما خسر محل تجاري كان يمتلكه في منطقة المسعودي، وتعرض لصدمة نفسية وزادت حالته النفسية سوءًا، وقد كان يعيش شبه مشرد في مديرية مزهر بعيد مننا، بس قبل سنتين أقاربنا ساعدونا ورجعوه ليعيش معنا ولكنه فاقد القدرة على الكلام ولا يستطيع عمل شيء.
ورغم صغر سنّه والمسؤولية التي يتحملها إلا أنه لا يخفي رغبته في العودة للدراسة متى سنحت الفرصة وتحسنت الظروف التي يعيشونها.. “لو سبر الوضع برجع أواصل دراستي، لأنه حتى أمي وأبي كان يشتوني أواصل بس ما لقيت حل غير اني أروح اطلب الله”. مشيرًا أن والدته لا تفتأ عن إبداء مخاوفها عليه كلما اتصل ليطمئن عليها.
تفاقم لظاهرة التسرب من المدارس
وازدادت خلال الأعوام الخمسة الماضية ظاهرة تسرب الطلاب من المدارس في محافظة ريمة واليمن بشكل عام نتيجة لصعوبات عدة، أبرزها الحرب وآثارها المختلفة. وهو ما يؤكده الطفل “محمد.م” ذو الثانية عشر عامًا، الذي ترك الدراسة وسافر إلى العاصمة صنعاء للعمل برفقة أحد أقربائه في بوفيه للعصائر والوجبات السريعة، بحسب والده “م.ع.”
ويضيف والده “م.ع”، وهو معلم وفضّل عدم ذكر اسمه، إنه سمح لابنه بالسفر للعمل لأنه مضطر خصوصًا مع انقطاع الرواتب بسبب الحرب و”العدوان”، وتفاقم حالته المعيشية كون الراتب كان مصدر دخله الوحيد.
إلى ذلك يشير الأستاذ داود الواقدي، إلى أن تدني الوضع الاقتصادي لكل فئات المجتمع بريمة أدى إلى زيادة ظاهرة تسرب الطلاب من المدارس، مؤكدًا أن الظروف المعيشية الصعبة دفعت الكثير من الناس _حتى المدرسين أنفسهم_ لتشجيع أطفالهم على ترك الدراسة والانخراط في سوق العمل أو لممارسة أعمال الزراعة.
ويضيف الواقدي في حديث “ريمة بوست”، أن البطالة وانعدام الوظائف التي يعانيها خريجو الجامعات والمعاهد المهنية وغيره، ساهمت في خلق نظرة سلبية عن مخرجات التعليم وأهميته، إذ تبنّى المجتمع الريفي مفهومًا يرى أن مواصلة الدراسة لم تعد أمرًا ذو فائدة على الطالب سوى إهدار السنوات التي من الأفضل أن يستغلها بالاتجاه لسوق العمل المحلي أو الاغتراب، حد قوله.
في السياق ذاته أوضح تقرير لمنظمة اليونيسف في مارس 2020م، إن هناك أكثر من 2 مليون طفل خارج المدرسة باليمن، من أصل 7 ملايين طفل في سن المدرسة، ويُرجع التقرير أن “بدون رواتب منتظمة وبسبب النزاع والأزمة الاقتصادية المستمرة، لم يتمكن المعلمون من الوصول إلى مدارسهم، أو اضطروا إلى البحث عن فرص أخرى لكسب العيش لإعالة عائلاتهم”.
فيما أشار تقرير لوزارة التربية والتعليم بصنعاء مطلع العام الجاري، إن أكثر من مليون طفل محرومون من التعليم، وهو عدد يضاف إلى 1.6 مليون طفل آخرين لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة أصلاً. أما على المستوى المحلي بمحافظة ريمة، حاول معد التقرير الحصول على احصائيات حول مستوى التحاق الطلاب بالمدارس لهذا العام والأعوام السابقة، إلا أنه لم يلق تجاوبًا من قبل مكتب التربية بالمحافظة.
حقوق مسلوبة
بينما يحتفل العالم باليوم الدولي للطفل، وتستعرض الدول تجاربها في تحقيق حياة أفضل للأطفال، يجلس طلاب مدرسة الإخلاص الابتدائية بمنطقة الرُييم بمزهر، في ثلاثة فصول شعبية شبه متهالكة، مفتقرين إلى أبسط الحقوق التعليمية، ولم يحصلوا سوى على تلك الفصول ذات الجدران المتهالكة.
في حديث لـ “ريمة بوست”، يقول منير سلطان، نائب مدير مكتب التربية والتعليم بمزهر، إن المدرسة عبارة عن ثلاثة فصول شعبية، بنيت على حساب الأهالي منذ عشرين عامًا، ويعاني الطلاب فيها من انعدام البيئة التعليمية، إذ أن الفصول بلا نوافذ، الأمر الذي يعرضهم للبرد خصوصًا في الشتاء.
ويضيف، أن المدرسة تضم حاليًا ما يقارب 150 طالبًا وطالبة، غير أنهم يعانون من تهالك الفصول ونقص الكراسي، إضافة إلى عدم وجود كادر تدريسي، إذ لا يوجد فيها سوى مدرّس واحد، وآخر متطوع، مشيرًا أن الطلاب بحاجة إلى مبنى جديد يأوي الطلاب، حيث لم تكفي عملية ترميم الفصول التي يقوم بها الأهالي كل فترة.
وتنص المادة (28) من الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، لكل طفل الحق في التعليم. ويجب أن يكون التعليم الأساسي مجانياً وأن يكون التعليم الثانوي والتعليم العالي متوفرين. وينبغي تشجيع الأطفال على الذهاب إلى المدرسة للحصول على أعلى مستوى تعليمي ممكن. وعلى المدارس احترام حقوق الأطفال وعدم ممارسة العنف بأي شكل من الأشكال. وهو ما تشير إليه مواد الباب الخامس من القانون اليمني رقم (45) لسنة 2002م بشأن حقوق الطفل.
طلاب بلا مدرسين متخصصين
في السياق ذاته، يشكو الطلاب في معظم المدارس الإعدادية والثانوية من عدم حصولهم على الحصص الدراسية في المواد العلمية (الرياضيات، الإنجليزي، الفيزياء، الكيمياء)، نتيجة غياب الكوادر التدريسية المتخصصة في تلك المجالات، الأمر الذي يؤثر على محصلتهم التعليمية في كل عام، فيما يشكو آخرون في المرحلة الابتدائية نقص الكتب الدراسية.
غالب قاسم، مدير مدرسة الفتح الأساسية الثانوية، يقول، إن من الصعوبات التي تواجه التدريس، غياب الكوادر المتخصصة في المواد العلمية، وذلك بسبب اعتماد المدارس على كوادر من خارج محافظة ريمة، خصوصًا من محافظتي تعز والحديدة، مشيرًا أن مع ظروف الحرب وانقطاع الرواتب، غادر أولئك المدرسون وعادوا إلى محافظاتهم.
ويوضح، أن عدم وجود كوادر متخصصة محلية يعود إلى ظروف الأهالي الاقتصادية التي تحول دون مواصلة الشباب تعليمهم الجامعي، إذ أن الطالب يذهب إلى سوق العمل مبكرًا، ما ساهم في انعدام التخصصات، وساعد في قيام بعض المدرسين بأخذ الدرجات الوظيفية من ريمة ومن ثم نقلها إلى محافظات أخرى.
ويرى غالب قاسم، أن في ظل الوضع الحالي، فالحل يكمن في التعاقد مع متطوعين متخصصين في المواد العلمية، مقابل منحهم مبالغ مالية محدودة تعينهم على الظروف، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تكاتف وتعاون لجمع تبرعات مجتمعية ومساعدات من فاعلي الخير، حد قوله.
وعن الصعوبات المختلفة التي تقف حجر عثرة أمام التحاق الأطفال بالمدارس أو تحول دون مواصلتهم العملية التعليمية في معظم مناطق ريمة، حاولنا الاستماع إلى مكتب التربية والتعليم بريمة، لمعرفة الوضع التعليمي والمعالجات التي يمكن أن يتبناها، غير أن مدير المكتب أعتذر لانشغاله المستمر حد قوله، رغم انتظارنا لما يقارب عشرة أيام للحصول على رد لتساؤلاتنا.