“ما كنت أبداً أتوقع أَنَّي سأقرأ واكتب رغم عدم التحاقي بالمدرسة وأن مستواي في قراءة القرآن يفوق الذين درسوا الثانوية والجامعة”، هكذا كانت بداية الحديث مع “إيمان” وهي تروي قصتها، عائدةً بالذاكرة إلى الوراء مستوقفةً منها محطات من الحسرة التي ولَّدت بداخلها إرادة قوية لا يقهرها مستحيل.
إيمان (27) عامًا، (اسم مستعار)، فتاة ريفية من مديرية الجبين، نشأت منذ صغرها في مجتمع أُمِّي لا يعِي أهمية التعليم للبنات… ومن أسرة تكسب قوتها بكد يدها وعرق جبينها، الأمر الذي جعل إيمان تترك المدرسة منذ أول أسابيع التحاقها بها؛ وذلك إثر مطالبة المدرسة المستمرة لها بدفع رسوم التسجيل حد قولها، والتي ما إن تملصت منها حتى وجدت عقبة كبيرة أخرى، هي عجز أسرتها عن شراء قلم ودفتر.
“إنّي أدرس بالمدرسة في هذاك الوقت ما كانتش حاجة مهمة لي ،ولأهلي،كان تعليم إخوتي هو المهم .!أمَّا إحنا البنات جلسنا جنب أُمنا نساعدها في أعمال الزراعة والرعي وغيرها من الأعمال المتعبة لنكفي أنفسنا، ثنتين فقط بصعوبة كملين الدراسة لصف تاسع وهن أكبر مني، و كان أبي مصاب بمرض خلَّاه طريح في فراشه لأنَّه تعرض لصدمة قوية ويعيش على العلاجات، وكلنا هذاك الوقت عاد احنا صغار”. تقول ايمان.
مسؤوليات كبيرة يتحملها الأطفال
عاشت إيمان طفولة صعبة هي وإخوتها وشقيقاتها الخمس. فقد كان على أخويها خالد ومحمد (أسماء مستعارة) تقسيم وقتيهما بين الدراسة وأعمال أخرى، في حين كانت شقيقتها الكبرى تملك ماكنية خياطة تعود عليها بدخلٍ مادي لا بأس به كونها مبتدئة في الخياطة، أمَّا شقيقاتها الأخريات فكنَّ يعملن في أعمال خارج البيت وداخله.
وقتها لم يكن لدى إيمان الهمّة والصبر لتواصل التعليم كما فعلت شقيقتها حنان ونور على الرغم من أنّها الأصغر… “ما كنش عندي وعي وكان عمري صغير أخترت المرعى بدل المدرسة ، فكانت مهمتي رعي الغنم كل يوم. اذكر هذيك الأيام واتحسر واندم، ما كان بيدي شيء اعمله”.
“كبيرة بين الصغار وصغيرة بين الكبار”
صباح كل يوم وهي في طريقها للمرعى تصادف “إيمان” الطلاب والطالبات وهم في طريقهم للمدرسة، تختبئ في أي مكان، وتتوارى عن الأنظار؛ خشية أن يوجّه أحدهم إليها سؤالا لا تجد له جوابا: “ليش ما تدرسي؟”وأنت صف كم؟ “وخوفا أن يتنمروا عليها ويعايروها كونها راعية غنم.
أمضت إيمان وقتًا لم تكن تعرف فيه سوى الأغنام ومن يرعون معها فقط لتعيش شبه منعزلة عن الاختلاط بالناس، فوقتها يمضي من السابعة صباحا حتى الخامسة مساءً وهي في مراعي بعيدة ومعزولة.
مرت الأيام وكبرت إيمان وبدأت تكسر تلك العزلة التي فرضتها عليها ظروف خارج إرادتها وتختلط بقريناتها ممن ارتدن المدرسة أحست حينها بوجود مسافة شاسعة فصلتها عن ذاتها التي تركتها عندما تركت المدرسة وبين ما هي عليه الآن ومقارنة بالأخريات لتجد أنها تائهة بين أن تكون أو لا تكون.
حاولت إيمان تقليص تلك المسافة ولكن هذه المرة بقرار الالتحاق بصفوف محو الأمية تقريباً في العام 2008م، لتتخطى ما فات من العمر وما ضاع من الوقت، وكان قرارها ذاك وهي في سن السابعة عشر. في صفوف محو الأُمِية كانت هي الأصغر بين المتواجدات هناك، فكنَّ ينتقدنها على إلتحاقها بصفوف محو الأُمِّية وأنّها يجب أن تكون في المدرسة كونها صغيرة.
حينها وقعت إيمان في حيرة من أمرها فهي صغيرة جداً مقارنةً بالنساء اللَّاتي يدرسن في محو الأُمِّية وكبيرة جداً بأطفال الصف الأول في المدرسة بل وجميعهم، فالمدرسة القريبة منها يُدرس فيها من الصف الأول حتى السادس الابتدائي فقط. بنبرة حزنٍ تستدرك قائلة: “كنت محتارة، واشعر كل يوم بانه في شيء ناقصني، والشي اللي كنتُّ أتمنُّه حلم ما يتحقق”.
خطوة صغيرة نحو الأمل
ألهت مشاغل الحياة وحياة الريف الصعبة إيمان وقتا لا بأس به عن حلمها وظنت أنّ القراءة والكتابة باتت بالنسبة لها رابعة المستحيلات إلى أن مرت بالصدفة ببيت خالها فوجدت ابنة خالها منال (اسم مستعار) منكبة على كتبها. منال هي الوحيدة من بنات القرية التي تدرس وهي تقريبا من نفس جيل إيمان وكانت متفوقة جدا والكل يتحدث عنها ويضرب بها المثل في النجاح والتفوق.
أخذت إيمان ترمقها بنظرات إعجاب تارةً وتارةً نظرات توحي بحزنٍ وأسى لتلاحظ منال حال إيمان وقد شردَ ذهنها بعيدا تُلوِّح منال بيديها في وجه إيمان وتقول لها مازحة: “وين شردتي… نحن هُنا “بابتسامة ذابلة ترد إيمان :كم أتمنى لو درسك، وأكون مثلش، الكل يحترمني ويقدرني، على الأقل أعرف أقرأ واكتب”.
تقفل منال كتابها وتضعه جانبا وتضع كلتا يديها على كتفي إيمان بعد أن انهارت دموعها وتزرع فيها أملاً بعد أن صحَّر اليأس منابت آمالها قائلة “ذلحين عاده وقت. أهم شيء تحاولي”. ثم أخذت ورقة وكتبت عليها الحروف الهجائية حيث أن إيمان كانت تحفظها لكنها تجهل أشكال الحروف وكيف تكتب؟ وبعد أن أكلمتها أخذت تعلِّم إيمان اسم كل حرف وكيفية كتابته وصوته عند النطق. تغيّر إيمان بحماس وضعية جلوسها وتمسك بالقلم لأول مرَّة محاولة كتابة اسمها فكتبته ومنال ترشدها وتصحح لها”.
“هرب هم كبير من حياتي… القراءة والكتابة مش صعب مثلما كنت اتخيل” تضيف إيمان. كانت هذه الخطوة خيط النور الذي شق طريقة في نفق الظلام الذي خيَّم بالجهل حياة إيمان وعزلها، حد تعبيرها عن جمال العلم والمعرفة.
أكملت إيمان ما بدأته لها منال وترددت عليها لمدة أسبوعين لتأخذ منها دروس في الإملاء والقراءة وأصبح كل وقتها في كتابة وتهجِّي كل كلمة تصادفها وتستطرد “تمام… هذا مش كل تمكنه ،الدراسة لوحدي مش أحسن من الدراسة بالمدرسة…؛بالمدرسة طلاب، ومدرسين ،وهذاك الوقت ما كنش معي صاحبات”.
“كدت أستسلم”
عندما لم تتمكن من الالتحاق بالمدرسة أو مركز لمحو الأُمٌِية أخذت تبحث عن بدائل جديدة لتروي بها ظمأ حلمها وهذه المرَّة وجدت إيمان ضالتها في مركز لتحفيظ القرآن الكريم في العام 2014 وهناك تسرد لنا بداياتها والصعوبات التي واجهتها وكيف أنها هذه المرَّة تحلَّت بعزيمة قوية حتى وصولها كما تصف نهاية نفق الأُمِّية. أخذت نفساً عميقاً وروت: “لقيت صعوبات كثيرة…كادت تجعلني اتراجع وأستسلم ،لكن الحمد لله تجاوزت كل شيء”.
عند دخولها مركز التحفيظ شعرت للوهلة الأولى بخيبة أمل فقد وجدت كل من هناك بيدها مصحف وتقرأ فيه ،فهي لم تُجد القراءة بعد ودخلت في إحدى حلقات التحفيظ وفي الحلقة(مجموعة من الطالبات على شكل حلقة)شرعت الأستاذة بالتلقين والطالبات يرددن خلفها وجاء دورها في القراءة أطرقت رأسها للأرض وتولدت بداخلها غصة ،كررت عليها الأستاذة الأمر بالقراءة “إقرأي”.لتجبيب أخرى تعرفها نيابة عنها “هي ما تعرف تقرأ سريع ، تتأتأ تأتأه”.
تفهّمت الأستاذة وضعها وشجّعتها وكلفت إحداهن ممن يجدن القراءة لتقوم بتلقينها وتعليمها، لكن الصعوبة وجدتها إيمان عندما تعود للبيت وتحاول الحفظ بمفردها كونها لا تستطيع أن تقرأ بطلاقة فقراءة كلمة واحدة تأخذ منها وقتًا، ومن في البيت لا وقت لديهم لها، فالكل لديه مشاغله الخاصة.
كسر المستحيل
قررت إيمان المضي قدما وألَّا تستسلم وقسمت وقتها جيداً حتى لا يثنيها شيء ويعيق استمرارها. كي تصل للتحفيظ مبكرًا كان عليها الاستيقاظ باكرًا في السادسة لجلب الماء على رأسها، وفي السابعة تذهب لرعي الأغنام حتى الساعة الثانية عشر ظهرًا تعود للبيت وقبل ذلك عليها جلب الماء لتسقي الغنم والقيام ببعض الأعمال في البيت حتى الثالثة عصرًا وهو موعد التحفيظ. كان عليها أن تقطع مسافة في طريق جبلية لمدة نصف ساعة لتصل مبكرا بغية أن تجد من تراجع لها حفظها قبل المراجعة.
تمر الأيام ويلاحظ الجميع مدى تقدّمها في الحفظ شجّعها ذلك على ادخار بعض المال لشراء جهاز MP3 صغير وذاكرة وأخذت تستمع للسور وتحفظها جيداً وبالتجويد في وقت فراغها.. وبهذا فاق حفظها وأداءها الجميع، كما يقلن زميلاتها. فأصبحت متميزة ويضرب بها المثل في الحفظ والإتقان وزاد ذلك ميزة كونها أُمِّية تقرأ القرآن قراءة صحيحة ومجوَّدة عن ظهر قلب.
برزت موهبتها أكثر في اختبارات السرد (الاختبارات الشفوية).. “تفوقت في السرد لكن أكون عكس ذلك في الاختبارات التحريرية، كانت الأستاذة تفرض على من تكمل أولا أن تكتب لي ما أُملي لها ،أو تختار هي واحدة ،كنت ألاحظ عليهن أنهن ما يرغبين يكتبين لي عشان الإختبارات مكثَّف”.
خصصت الأستاذة في التحفيظ يومًا في الأسبوع لعمل دروس في الإملاء والقراءة تمكّنت من خلالها إيمان من التغلب على مشكلة كانت تؤارقها وتهدم حلمها الأمر الذي حدا بها أن تقرأ وتكتب بشكل لا بأس به. وأصبحت معروفة ولديها الكثير من الصديقات وصار لها قدرة على الاندماج والاختلاط بغيرها وكلها ثقة بنفسها بعدما كانت حبيسة الشعور بالنقص واليأس.
تتنفس إيمان الصعداء وبابتسامة رضاء تختم حديثها: “الحمد للَّه ، وهب اللَّه لي إرادة قوية خلتني أواجه مشكال كثيرة كانت تعيقني، ورغم مشاغلنا في الحياة …..أنا اليوم أقرأ واكتب وأحفظ عشرين جزءاً من القرآن الكريم قراءة وتجويدً، إن شاء اللَّه أختم المصحف كاملا”.