بشمعة مضيئة، ومبخرة ينتشر دخانها العطري في الأرجاء، كانت تذهب المسنّة السبعينية “مريم الحود”، لزيارة “قبر الجلاني”، متى ضاع شيء ما من أغراضها ومدّخراتها أو نسيت أين خبأته، وقبيل أذان المغرب بساعة واحدة، تضع تلك الشمعة والمبخرة على القبر في كوّة مخصصة لذلك، مرددة: “هذي شمعه وبخور يا جلاني رد لي ضائعتي”، على اعتقاد أن الـنُذرِ التي تقدمه يساعد في إعادة ما فقدته، حد قولها.
في حديثها لـ “ريمة بوست”، تضيف: أنها كانت تمارس تلك الاعتقادات في السابق، وقد أقلعت عن زيارة القبر وتقديم النذر إليه منذ سنوات كثيرة، مشيرة، أن هذه الاعتقادات ورثتها من المجتمع، حيث كان القبر مزارًا للكثير من الناس في الماضي، ويتداولون حوله الكثير من الحكايات.
وتشير، أنها لا تعرف عن القبر سوى ما يتناقله الأهالي منذ عشرات السنوات، إذ يقال إن القبر يعود لشخص يسمى “عبد الرحمن الجلاني”، وهو رجل من أولياء الله الصالحين ويمتلك كرامات وقدرات خارقة. حد قولها.
يقع قبر “الجلاني” بمحاذاة بركة مائية في قرية المحل بالجبين، وتدور حوله العديد من الأساطير والحكايات، التي دفعت الأهالي خلال عقود من الزمن إلى الخوف منه، وإيلائه اهتماما كبيرا، في إعتقاد سائد، أن إهماله أو التعرض له بسوء قد يجلب لهم المصائب التي هم في غنى عنها.
غرابة الأساطير
أغرب تلك الأساطير القديمة التي يتداولها السكان توارثا جيلا بعد جيل، تقول، إنه منذ زمن بعيد، مر رجلاً وهو ممسكا بخطام ثوره، في الطريق التي تقع بمحاذاة القبر والبركة المائية، وحين رأى البركة ممتلئة بالماء، قال مستهزئا: “يقولون البحر في تهامة، والبحر هنا”. وهو الأمر الذي أثار غضب الجلاني، فابتلعته البركة، ومات غرقا فيها هو والثور.
لم تقتصر الأساطير التي يتناقلها الأهالي في الريف، حول قبر الجلاني فحسب، بل حول قبور عدة وفي مناطق مختلفة. قبر “المهدلي” الواقع في منطقة الظبر، والذي يعود إلى أحد الصالحين، كما يقال، هو الآخر، تنتشر عنه حكايات وروايات عديدة. أبرزها، بحسب الأهالي، إن “القُبّة” أي الغرفة التي تقع على القبر، ولا يزيد حجمها على المترين، تتسع لأكثر من عشرين شخصًا، فحين تكون ممتلئة بالزوار، يدخل أحدهم قائلاً: “وسّع يا مهدلي”، فتتسع الغرفة تلقائيًا لتضمهم جميعًا.
في حين يتداول الناس اعتقادات، تقول، إن التراب الموجود بجانب القبر الذي يقع بداخل “قُبّة” (غرفة تبنى على القبر) يُشفي المريض، ويجلب الحمل، ويبارك المولود. وهو ما تشير إليه، آمنه الكردسي ، 76 عامًا، إنها كانت ترافق النساء والأطفال حديثي الولادة، للذهاب إلى قبر المهدلي، ليقمن بدهن جسد المولود الرضيع بالتراب، ليحظى بالحظ الجيد والبركة.
بالرغم من الانتشار الواسع لتلك الاعتقادات في الماضي، إلا أنها تراجعت بشكل كبير خلال العقدين الأخيرين، بحسب “آمنة”، إذ تشير: كانت هناك خرافات عديدة متعلقة حول قبور الأولياء وغيره، لكنه مع مرور الوقت ووعي الناس تراجع اعتقاد بهذي الخرافات مقارنة بأيامهم السابقة الذي كان لديهم يقين جازم. وهو الأمر الذي يؤكده، أحمد مثنى، باحث اجتماعي، حيث يقول، أن انتشار التعليم والثقافة الإسلامية ساعد في بناء وعي الناس، وتصحيح الاعتقادات الخاطئة لديهم، كما بنى ثقافة اسلامية صحيحة في عقول الأجيال الجديدة.
وتعتبر غالبية الحكايات والأساطير التي يتداولها الأهالي، حول قبر “الجلاني” وغيره من القبور التي تلقى رواجًا لدى السكان، طريقةً لتكريس الاعتقاد بأهمية هذه القبور وخلق هالة مقدسة حولها، والشخصيات التي يقال بأنها تعود لهم بالخير والبركة، في حين أنها لا تقدم ولا تؤخر، وليست سوى خرافة من نسج خيال الإنسان، يضيف أحمد مثنى.
نظرة دينية
من جهة أخرى، يقول محمد الوادعي، أستاذ في التربية الإسلامية: إن كل تلك الخرافات والمعتقدات انتشرت في ريمة بسبب الجهل وقلة الوعي في الماضي، معتبرًا زيارة القبور والتقرب إليها بنية الحصول على البركة أو الرزق وغيره، نوع من أنواع الشرك بالله.
ويضيف في حديثه، لـ”ريمة بوست، أن تلك الممارسات تمثل خطرًا عظيمًا على الإسلام والمسلمين لما تنشره من مفاهيم واعتقادات خاطئة، بالتعلق والتضرع لغير الله، وهي مخالفة لأمر الله ورسوله الكريم، سواء كانت بغرض التداوي أو لجلب الضائعة أو الحمل وغيره، فالشافي هو الله، ولا يعلم الغيب ويقدر الأقدار إلا الله وحده لاشريك له.
ويشير الوادعي، أن تلك الممارسات محرمة شرعًا، حتى وإن كانت تعود تلك القبور لأنبياء، مستشهدًا بقول الله تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ) (106) سورة يونس.