بجسد مُنهك وملامح باهتة تنتظر العشرينية “أميرة المخلافي” دورها بأحد المشافي الأهلية بمديرية الجبين، للدخول إلى الطبيبة، للمراجعة والاطمئنان على صحتها وصحة جنينها، بعد أن ساورتها المخاوف من صعوبة الولادة سيما بعد ما عاشته من ألم نفسي وجسماني إثر فقد طفلها الأول أثناء المخاض.
تزوجت “أميرة” وهي بعمر 14 عامًا، وبعد أشهر قليلة من الزواج حملت بطفلها الأول، وهو الأمر الذي أنهك صحتها وتسبب بمضاعفات صحية عدة. تروي “أميرة” تفاصيل قصتها وما عاشته من معاناة نفسية وجسمانية، إثر زواجها وحملها المبكر، والذي انتهى بوفاة الطفل أثناء المخاض، نتيجة عدم قدرتها على تحمل مضاعفات الإنجاب بالإضافة إلى قلة الوعي والإهمال الصحي، كما تقول.
تواصل أنها تعرضت لمضاعفات صحية شديدة تجهل تسميتها، في أخر شهر للحمل، في حين لا يوجد مركز صحي قريب منها… “نحن نعيش في إحدى العزل في مديرية الجبين حيث نفتقر لوجود مركز صحي بالقرب منا يمكننا الحصول من خلاله على خدمات الصحة الإنجابية ونفتقر ايضاً لوجود أخصائيات أو حتى قابلات صحيات ماهرات في منطقتي. كذلك لا نستطيع الذهاب إلى مستشفى الثلايا لأنه بعيد عننا ونحتاج سيارة لنقلنا ولم يكن لدينا إمكانيات مادية”.
اشتدت آلام الحمل ومضاعفاته على “أميرة” وتعرضت لما يسمى بـ “تسمم الحمل”، والذي سبب لها تشنّجات، وفي بعض الأحيان كان يغمى عليها لوقت طويل أي لما يقارب ساعة. ونتيجة للجهل وقلة الوعي لدى بعض أقاربها، فقد ظنوا أنها مصابة بالسحر، ليقوموا بأخذها في زيارات عدة إلى” مشايخ” يعتقد أنهم يعالجوا السحر، غير أن حالتها الصحية زادت سوءًا، حد قولها.
“زوجي عاطل عن العمل فهو غالباً يشتغل بأعمال حره تلبي احتياجاتنا الأساسية فحين ذهابنا للحديدة لإسعافي لم يكن يملك تكاليف العملية”
فجأة..! ظهرت علامات المخاض عليها، فاستدعوا إحدى القابلات الصحيات لمتابعة وضعها الصحي، والتي بدورها أخبرت الأهل بضرورة إسعاف الفتاة لأنه بسبب صغر سنها وضعف جسدها، فقد تعرضت لمضاعفات كثيرة، وقد يؤدي استمرارها إلى وفاتها هي وجنينها.
حينها أُسعفت على عجل إلى أحد المستشفيات بمدينة الحديدة غربي اليمن، ولكن ما إن وصلت إلى هناك هي وزوجها وصديقتها، حتى رفض المستشفى إدخالها إلى غرفة العمليات إلا بعد أن يتم دفع التكاليف المالية مسبقا، غير مكترث لحالتها الصحية المتدهورة، فقد تفقد الحياة هي وجنينها إن لم تتلقى الرعاية الصحية بسرعة.
هرع زوجها كالمجنون_حد تعبير أميرة_ من أجل تدبر المال اللازم، فقد أسعفها ولم يكن يمتلك تكاليف العملية، وحالته المادية صعبة، إذ أن دخله من الأعمال الحرة بالكاد يلبي احتياجات الحياة الأساسية. بالمقابل بقيت فاقدة للوعي، وبجوارها صديقتها التي ساهمت أيضاً بقدر ما تستطيع في التكاليف.
تتابع حديثها: “زوجي عاطل عن العمل فهو غالباً يشتغل باعمال حره تلبي احتياجاتنا الأساسية فحين ذهابنا للحديده لاسعافي لم يكن يملك تكاليف العملية”. عاد الزوج بنصف تكلفة العملية، بعد أن استدان من آخرين، وساعده البعض أيضاً، ولكن حينها كان الجنين قد فارق الحياة، في حين أُدخلت الأم قسم العناية المركزة جراء تدهور حالتها الصحية ودخولها مرحلة الخطر.
ذكرى سيئة
ذات الوقت، تجلس إلى جانبنا “سميرة”، 32 عاما، اسم مستعار، وهي صديقة أميرة التي رافقتها أثناء اسعافها إلى الحديدة، لتشاركنا الحديث حول تلك اللحظات الأليمة التي عايشتها، إذ تأخذ بيد “أميرة” وترفعها لتوضح لنا الندوب وأثر الجروح التي أجريت لها في المستشفى… “تعرضت أميرة لتجلط دموي مما اضطروا لفتح الأوردة بتدخل جراحي، وعانت من العديد من المضاعفات التي دخلت على إثرها إلى العناية المركزة”.
وتضيف بحرقة لـ” ريمة بوست”: “لقد كانت أميرة في المستشفى تتلوّى من الوجع امامهم ولم يدخلوها الى غرفة العمليات إلا عند احظار المال. ولقد كانت حالتها سيئة فقد فضّل الأطباء وضعها تحت المراقبة”. وما إن بدأت حالتها بالتحسن بشكل طفيف، حتى أخرجت “أميرة” من المستشفى، إذ أن تكاليف الرقود مرتفعة في حين الوضع المادي للزوج لا يسمح باستمرار مكوثها لفترة أطول… تشير صديقتها بأسى “ماكنا نظنها أن تعيش بعد ما حدث لها وبعد كل تلك المعاناة”.
بين الأمل والخوف نهاية مؤلمة
تعليقا على الجملة الأخيرة لصديقتها، ترتسم على وجه “أميرة” ابتسامة ممزوجة بالأمل والخوف في آن معًا، وتتلمس جنينها بكفها قائلة: “هذا حملي الثاني بعد سنوات مما حدث. وأنا الآن في شهري الثامن أحاول في هذا الحمل تجنّب ما حدث سابقاً رغم أني ما زلت أحمل الكثير من الخوف من عيش المعاناة والعذاب الذي عشته سابقا”.
ولأن موعد مخاضها اقترب وتحمل توأم وتعاني من فقر حاد في الدم، فقد نصحتها الطبيبة، بضرورة الولادة في مستشفى كي تكون حالتها تحت إشراف طبي، وهو الأمر الذي زاد من قلق “أميرة” وأعاد إلى ذاكرتها أوجاع حملها الأول الذي مر عليه ما يقارب خمسة أعوام، إذ تعبر عن قلقها ومخاوفها وعينيها تترقرق بالدمع: “لا أعلم هل بإمكاني أن أرى أطفال. أم أني سأفقد الحياه أنا وهم”.
وبعد مرور أسبوع واحد من لقاءنا بها، جائت لحظة مخاض “أميرة”، فأُسعِفت إلى أحد مستشفيات مدينة الحديدة، وهي في وضع حرج، وهناك ولدت ولكن توفيا طفليها التوأم، فيما لا تزال حتى الآن تتلقى الرعاية الصحية في قسم العناية المركزة، وهي نهاية مؤلمة، كانت تخشاها ولكن كان للأقدار رأي آخر، لتعيش معاناة أشد وطأة عليها مما مضى، وسط وضع صحي ومادي صعب، يهيمن على الصورة.
تحذيرات دولية لإنقاذ المرأة
في السياق ذاته، قال صندوق الأمم المتحدة للسكان، في نوفمبر من العام الماضي، أن في اليمن تموت امرأة كل ساعتين وهي في حالة ولادة… ومقابل كل امرأة يمنية تموت أثناء الولادة، تعاني 20 امرأة أخرى من إصابات أو عدوى أو إعاقات يمكن الوقاية منها، وأن 4 من كل 10 نساء لا يتلقين رعاية ما قبل الولادة من مقدم رعاية ماهر.
فيما، حذر صندوق الأمم المتحدة للسكان، في بيان نشره مطلع مايو 2020م، من إمكانية وفاة أكثر من 48 ألف امرأة في اليمن، بسبب مضاعفات الحمل والولادة جرّاء النقص الحاد في التمويل واحتمال إغلاق مرافق الصحة الإنجابية، في خضم المخاطر المتزايدة التي يشكّلها كوفيد-19.
وطالب الصندوق، بتمويل عاجل بقيمة 59 مليون دولار لتوفير الرعاية الصحية الإنجابية المنقذة للحياة وخدمات حماية المرأة حتى نهاية عام 2020، مشيرًا إلى أن هناك حاجة إلى 24 مليون دولار إضافية للاستجابة لكوفيد-19 وحماية العاملين الصحيين والنساء والفتيات وتمكينهم من الحصول على خدمات الصحة الإنجابية.