“لا شك أن الكثير من التحديات التي تغلبت عليها كانت بالنسبة لي محطات نجاح”، هكذا يرى الأستاذ والمؤلف حيدر علي ناجي التحديات التي تواجهه؛ وذلك من خلال فلسفته الخاصة، التي كان للبيئة الجبلية الصعبة أثرًا في تشكيلها وصقل شخصيته الصلبة التي لا تقبل الهزيمة أو التراجع. فمن يتربى ويسير على الجبال الوعرة والمحفوفة بالمخاطر لساعات طويلة، يرى التحديات الأخرى مجرد محطات استراحة لمحارب يناضل لاختطاف النصر في معركته المصيرية.
في أروقة مكتبته بمنزله بصنعاء، يقضي “حيدر علي ناجي العزي” غالبية وقته غارقًا في صفحات الكتب، تاركًا المجال لذاكرته تناول ما لذ وطاب من الكتب الثقافية والاجتماعية والفلسفية والروايات والشعر والأدب وعلم النفس والتاريخ، فهو الذي عاش مع القراءة وحب اقتناء الكتب قصة طويلة بدأها منذ طفولته، بحفظ كتاب الله عز وجل، والمتون العشرة التي تلخص شتى الفنون العلمية، ثم بحفظ جزء من كتاب “ألف ليلة وليلة”، ورواية تلك القصص التي يحفظها لـ جلسائه في اليوم التالي، وهو الموقف الذي ما زال عالق بذاكرته، بسبب تصرف عمه حسن ناجي، يقول: “في منزل عمي حسن ناجي وجدت جزء من كتاب ألف ليلة وليلة، فأعجبني وشغفت بما يحتويه من خيال خصب يناسب سني وكنت اقرأ القصة وفي اليوم التالي أرويها على الجميع في المقيل وفجأة اختفى ذلك الكتاب وحزنت عليه كثيرا وبعد فترة اكتشفت أن عمي قد وضعه في شنطته المغلقة فاستغربت من ذلك”.
حيدر علي ناجي العزي، باحث وتربوي ومؤرخ، ارتبط اسمه في ريمة بالعملية التربوية والتعليمية التي كان من أوائل مؤسسيها بالمحافظة، وعمل فيها لأكثر من عشرين عامًا، متنقلا بين وظائف عديدة، أولها مديرًا لأول مدرسة أنشئت في مديرية كسمة في 1974م، وأخرها مديرًا لمكتب التربية والتعليم في العام 2004م.
واجه “العزي” خلال مسيرته في المجال التربوي مصاعب شتّى، يصفها بالكبيرة، كونها ترتبط بصعوبة الجغرافيا الجبلية، التي تفاقم سير الحياة بشكل عام، وتنعكس آثارها على العملية التعليمية. كان الطلاب حينها يضطرون لنقل المناهج الدراسية والكراسي والمستلزمات المدرسية على ظهورهم أو على ظهور الحمير، سيرًا على الأقدام، من أحد الأسواق الواقعة في تهامة المحاذية لمحافظة الحديدة، إلى أعالي جبال مديرية كسمة، ومن ثم إلى بقية مناطق المديرية، وهي المعاناة التي تنطبق كذلك على المديريات الأخرى بريمة.
وقد شكّلت التضاريس الصعبة عقبة كبيرة، أمام الكوادر التربوية المصرية التي كانت تدرّس في اليمن، والتي كانت ترفض أن يتم استقدامها للتدريس في جبال ريمة الوعرة، وهو الأمر الذي كان في الغالب يجعل “العزي” يقف محتارًا ومتسائلًا: “كيف يمكنك أن تقنع معلم مصري يعمل في صنعاء ليقبل التدريس في ريمة، والانتقال إلى الحديدة والصعود سيرا على الأقدام لأيام حتى يصل أعالي جبال ريمة، في حين لن يحصل على امتيازات مادية تختلف عما يتلقاها في صنعاء”.
عفوية الماضي
“عند رحلتي لأول مرة إلى مدينة الحديدة برفقة والدي وأنا لا زلت يافعا، لم نكن نعرف شكل السيارات ولا حجمها ولا كيفية التعامل معها”
كانت حياته بمديرية كسمة مليئة بالمواقف المختلفة إلا أنه أحب أن يشاركنا بموقف صعب وطريف في ذات الوقت، كلما استذكره غلبه الضحك، واحتواه الحنين إلى الماضي وبراءة الطفولة، يقول: “عند رحلتي لأول مرة إلى مدينة الحديدة برفقة والدي وأنا لا زلت يافعا، لم نكن نعرف شكل السيارات ولا حجمها ولا كيفية التعامل معها، وفي سوق علوجة* (يقع بمديرية الجعفرية المحاذية لمحافظة الحديدة)، استأجر والدي حمارين لنقلنا إلى المنصورية لعدم وجود سيارات إلا في منطقة الخايع، وعلّمني أن أُمسِك بشدة بالوطاف (الوطاف: هو سرج يوضع على ظهر الحمار ويشبه سرج الخيل)، الحمار الذي أركب عليه، حتى أن أصابعي تورّمت من شدة وطول امساكي بالوطاف من الأمام والخلف وعند وصولنا إلى الخايع في تهامة كان هناك سيارتين أشار إليهما والدي ولكني لم أتمكن من تكوين صورة ذهنية عنهما وواصلنا السفر على الحمير ليلا ولأنني كنت طفلا فقد كنت أخف وزنا على الحمار الذي كنت أركبه مما جعله يركض ويسبق كل الحمير التي كانت تحمل عدد كبير من تجار المنصورية. وبعد مرور أكثر من ساعتين ليلا حضرت السيارتان اللتان رأيناهما في النهار. وكلما اقتربتا زاد ضوؤهما وزادت ضجتهما وزادت مخاوفي، فأنا لا أعرف كيف أتعامل مع حماري ليبتعد عن السيارتين. وكلما اقتربتا أكثر وأكثر وضربات قلبي تزداد ارجافا وحينما ضربت السيارة بوقها لإفساح الطريق لم أجد من وسيلة إلا أن أترجل عن الحمار وأهرب في الحقل الفسيح خوفا من السيارتين، وأبي يلحقني ويحاول أن يطمئنني رغم أنه لم يعد للسيارتين إلا غبارهما وضوء مصابيحهما الخلفية الحمراء”.
“صفحات من تاريخ اليمن في ريمة”، الذي صدر مطلع عام 2020م، كأول كتاب تدوّن صفحاته مجريات التاريخ في ريمة منذ ما قبل الإسلام حتى التاريخ المعاصر”
عُرفَ “العزي” لدى الكثير بحبه وشغفه الدائم بالتاريخ والغوص في أغواره، خصوصًا فيما يتعلق بتاريخ ريمة، فأصبح ذاكرة ريمة الحية. وقد كان ذلك الشغف هو الدافع لموائمته بين مسؤوليات العمل في العديد من الوظائف الحكومية بالقطاع التعليمي والتربوي، ومتطلبات الإلتحاق بالدراسة في قسم التاريخ بكلية الآداب بجامعة صنعاء، ليحصل على شهادة “الليسانس” عام 1990م، ثم شهادة الماجستير بدرجة امتياز في “التاريخ الحديث” من الجامعة ذاتها في العام 2001م.
منذ أن خرج إلى الحياة، في 1956م بمنطقة خودر بكسمة، حمل في قلبه الشعور بالفخر وشرف الانتماء لمحافظته الجبلية التي عانت وما زالت تعاني التهميش الذي حرمها الكثير من الحقوق الأساسية، وجعلها شبه غائبة عن واجهة التاريخ والتراث اليمني، رغم ما تحوزه من أهمية زراعية وتاريخية وجغرافية، كان لها ارتباطًا وثيقًا بنشوء الحضارات اليمنية القديمة وديمومة استمرارها في الحكم لعشرات السنين.
ظل تأليف كتاب عن تاريخ محافظة ريمة حلمًا يسعى “العزي” لتحقيقه، فلم يمل أو يكل من البحث وجمع المعلومات من أمهات الكتب والمراجع التاريخية منذ أكثر من 30 عامًا، ليتمخض عن ذلك كتابه “صفحات من تاريخ اليمن في ريمة”، الذي صدر مطلع عام 2020م، كأول كتاب تدوّن صفحاته مجريات التاريخ في ريمة منذ ما قبل الإسلام حتى التاريخ المعاصر… “تأليف كتاب أو عدة كتب تاريخية عن ريمة كان حلما ومشروع حياة وبدأت الفكرة في مطلع الثمانينات، ومن حينها كنت أستغل كل فرصة وأزور كل مديرية وأشتري أي كتاب يتعلق بتاريخ اليمن وأجمع ما أحصل عليه من وثائق ومخطوطات ومعلومات ومراجع وأحفظها”.
وخلال مسيرته في البحث والكتابة ألف “العزي” العديد من الكتب والبحوث التاريخية وأوراق العمل، منها كتاب “انقلاب عام 1955م في اليمن” عن وزارة الثقافة في 2004م، و “إنشاء وتأسيس محافظة ريمة” عن التوجيه المعنوي بصنعاء في 2011م، وبحث نشر في صحيفة الجمهورية بعنوان، “التيارات السياسية اليمنية المساهمة في انهيار المملكة المتوكلية”.
ورغم الجهد المضني والبحث الدقيق الذي يتطلبه التأليف في المجال التاريخي، إلا أن عقله ما يزال مليئًا، وقلمه زاخرًا بمشاريع كتب تاريخية واجتماعية عدة عن محافظة ريمة، إذ يرى أن كتابه الأخير: “صفحات من تاريخ اليمن في ريمة”، ليس إلا بداية لإصدار أكثر من خمسة كتب تاريخية واجتماعية، ما زال يعمل في تأليفها، وتتناول ريمة ومناطقها وأعلامها وشخصياتها ولهجاتها وسرد أحداث ووقائع معاصرة، بالإضافة إلى، “المجاعة في اليمن”، وهو تحقيق لمخطوطة القليصي”إعلام الآخرين بحوادث الأربع السنين”.
دائمًا يترجم “العزي” حبه وإنتماؤه لريمة في أعماله… “ريمة تستحق من أبنائها تظافر الجهود لإبراز تاريخها وتراثها وأعلامها وآثارها وقلاعها وجمالها الطبيعي الساحر، لِما يمكنّها من احتلال منصة الشرف في الحضارة اليمنية فهي جوهرة مكنونة وكنز مدفون وعنوان مجد يتشرف بالانتماء إليه كل من عرفها أو ترعرع في أحضانها”.
محطات وتجارب
لم تخلو حياته من العمل المجتمعي، بل كانت ضمن أولوياته، حيث ساهم في تأسيس أول حركة تعاونية في مديرية كسمة، وكان أمينًا عامًا مساعدًا لهيئتها، في 1977م، وشارك في العديد من الأعمال والمشاريع المجتمعية خلال الفترات الماضية. كما لم يكن العمل الحكومي مقتصرا على قطاع التربية والتعليم، فقد عمل موظفًا في مجلس الشورى عام 1972، واستمر لمدة عامين. ولسنوات متفاوتة خلال الفترة ما بين 2004م، و2013م، عمل مديرًا عامًا للشؤون الثقافية والتعليمية بوزارة شؤون المغتربين، ومديرًا عامًا لمكتب وزير المغتربين، ومدير تحرير صحيفة ريمة.
تجارب مختلفة محلية وأخرى دولية عاشها “العزي”، وأكسبته معارف جديدة استطاع من خلالها أن يمر بمحطات نجاح ويحصل على العديد من الشهادات التقديرية والفخرية التي لا مجال لسردها هنا، حيث يفضّل أن يسرد التجارب، كمشاركته في الوفود المبعوثة من وزارة المغتربين إلى عدد من الدول واستفادته من الإطلاع على تجارب وسياسات تلك الدول في قضايا عدة.
تذهب المواقف ويبقى الأثر حاضرًا في المخيلة، في العام 2004م، كان “العزي” يقف على المسرح الخشبي، ويقدم فقرات الاحتفالية التي أقيمت لاستقبال الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، في الجبين بريمة، لحظات حتى اعتلى الرئيس المنصة، وبدأ خطابه الذي أعلن فيه ريمة محافظة مستقلة، حينها تساقطت دموع العزي…”لم نتوقع ان يتم اعلانها محافظها وعندما اعلنها اختلطت دموع الفرح بالضحك والتصفيق فانهارت الدموع دون وعي”.