بعينين يملؤهما الدمع ووجه شاحب تعيش هدى 31 عاما (اسم مستعار) مع اختها “سلمى” في صنعاء، متناسية حياة الريف في ريمة، وغير مدركة الحالة التي صارت إليها، بعد أن سلبها المرض النفسي تفكيرها وأطفالها، وأفقدها زوجها التي لم يبق لها منه سوى انتظاره في موعد لن يأتي فيه.
دافع الحب
تزوجت هدى في سنٍ مبكر، وتحملت المسؤولية الملقاة على عاتقها كزوجة وربة بيت أيضا لأسرة كبيرة.. تقول شقيقتها سلمى في حديث لـ ريمة بوست “تزوجت أختي هدى من ابن عمي وهي صغيرة السن وكانت الأسرة كبيرة لأنو عندنا بالقرية يسكنوا الأسرة كلها ببيت واحد، الجد وعياله وعيالهم والبيت كبير جدا”. وتضيف أن هدى كانت نشيطة جدا، وأن حبها لزوجها وحبه لها، كان يدفعها لتقوم بكل أعمال المنزل بتفاني واخلاص.
كان زوجها يعمل في المملكة العربية السعودية ويعود إلى القرية كل فترة وأخرى، كغيره من المغتربين اليمنيين الذين أنهكتهم الغربة. ولكن بحسب سلمى فإن غربة هدى في بيت زوجها كانت أشد وطأة عليها، لما عاشته من معاناة ” كانت أم زوجها ما تساعدها بأعمال البيت. وكانت هدى تقوم من أذان الفجر تجهز الصبوح (الفطور) وبعدا تسير تجيب الحطب والعويد (علف للمواشي) للبقر. وترجع تحلب البقر وتنظف لهن. وترجع تسير تدي (تجلب) الماء من المعين (البئر) وهو في منطقة بعيدة عن البيت”.
لم تنتهي المهام اليومية التي كانت تقوم بها هدى، بل بعد عودتها من البئر قبيل الظهيرة، تقوم بطباخة وجبة الغداء لكل أفراد الأسرة، بالإضافة إلى العمال الذين يعملون مع عمها (أبو زوجها) في أعمال البناء وغير ذلك من أعمال الزراعة. تقول شقيقتها سلمى ” طول اليوم كانت هدى تشتغل بلا رحمة ولا شفقة. وكانت تعمل بكل حب وطيبة ولا تشتكي أبدا، حتى بعض الأحيان كانت تسير تساعد أمي لأنو أمي وحيدة بعدما تزوجنا ومابش معانا أخ وأمي معاها بقر وجرب (حقول زراعية)”.
الضغط يولّد الانفجار
مضتِ السنون وأنجبت هدى ثلاثة أطفال وارتفعت فاتورة المسؤولية التي تحملتها، ليصل بها الحال أن تعبت فجأةً وانهارت قواها ودخلت في حالة اكتئاب نفسية، كما تقول شقيقتها سلمى. ” فجأة تعبت قوي وأنهارت وجاء لـٍها أكتئاب وحدثت مشاكل مع أهل زوجها وحنقت (زعلت) وراحت بيت أهلها”.
ذهبت هدى مع أطفالها الأربعة إلى بيت أهلها، لتعيش مع والدتها، وبقيت منتظرة بكل شوق، زوجها الذي سيعود من الغربة، لينسيها المعاناة ويعوضها عن الأيام التي عاشتها من دونه. تقول شقيقتها سلمى “في فترة غياب هدى عن بيت أهل زوجها لم تقدر اربع حريم(نساء) القيام بما كانت تقوم به من أعمال في البيت وخارجه”.
ظلّت صحة هدى النفسية تتدهور أكثر، فظن الجميع بما فيهم أهلها وأهل زوجها أنها مصابة بسحر أو بمس شيطاني.. “زادت حالتها سوءا وقالوا فيها سحر، أو يمكن مس من الجن وقاموا يعالجوها بالقرآن والشعوذة وكانوا يضربوها عشان قالوا يخرجوا الجني من داخلها”.
وتضيف شقيقتها سلمى والأسى يعتصر قلبها “عيالها الثلاثة تأثروا وتبهذلوا في المعيشة فكانوا أحياناً يجلسوا في بيت جدهم(أب والدهم) وأحيانا عند جدتهم (أم هدى)”. فقد سلبها المرض أغلى ما لديها (أطفالها)، وأنهك ذاكرتها عنهم “كانت تحب عيالها قوي ومتعلقة بهم. بس من كثر المرض ما عاد حسها عند أحد(من شدة المرض لم تعد تشعر بأحد). ولأنها مسكينة ويتيمة باعوا ذهبها على أساس يعالجوها بالدجل والشعوذة”.
الزوج الحاضر.. الغائب
عاد زوج هدى من المهجر (السعودية)، ولكن لم يجد زوجته، التي ودعته بحزن، تستقبله بحفاوة كعادتها، بل إنها هذه المرة لم تتعرف عليه وتعترف به. تواصل شقيقتها حديثها”بعدما رجع زوجها من الغربة، حاول يعالجها ولكن كانت تنفر منه(لا تقترب منه)، رغم أنها كانت تحبه كثيرا بس ما عاد اعترفت به”.
ولأن سلمى (التي إلتقينا بها) هي الشقيقة الأكبر لهدى، فقد حاولت أن تعالجها تقول “بعد ذلك اصريت (ألححت) عليهم يجيبوها عندي إلى صنعاء عشان أعالجها لأنو احنا يتيمات ولا معنا أخ ولا عم”.(ألححت عليهم يأتوا بها عندي بصنعاء، من أجل أعالجها. فنحن بنات يتيمات ليس لنا أخ ولا عم). وتضيف “اخذتها للمستشفى وقالوا عندها حالة نفسية وجابو لها علاج ضرها اكثر ما نفعها” (اخذتها المستشفى وقالوا أنها مصابة بحالة نفسية، وأعطوها علاج ضرّها أكثر من ما نفعها).
لم تستطع الأدوية علاج هدى من مرضها النفسي، ولم يكن بوسع المرض أن ينسيها زوجها وأطفالها الأربعة. تقول سلمى وهي تصف وضع شقيقتها “لحد الآن عادها عندي وتدور زوجها وعيالها ومش دارية أن زوجها قد تزوج عليها واحدة ثانية”(حتى الآن ما زالت تعيش عندي، وتبحث عن زوجها وأطفالها وهي لا تعرف أن زوجها قد تزوج امرأة أخرى). وما تزال هدى تنتظر لقاءً بأطفالها وزوجها. فقد أخفي عنها أن زوجها قد طلقها..”طلقها زوجها وخبينا عليها خبر الطلاق وهي تحسب(تعتقد) انه ما زال بالسعودية”.
تجلس هدى وحيدة في غرفة مظلمة وتؤدي صلواتها، ولا تحب رؤية أحد، عدا عن اشتياقها لرؤية أطفالها الذين يعيشون في ريمة؛ وزوجها الذي ما تزال تنتظر رجوعه، إذ تسأل شقيقتها سلمى كل يوم بقولها: “متى با يرجع إبراهيم قدني مشتاقة له ليش مايجي؟”. غير مدركة لكل ما حدث.