إذا كان للوطن أنشودة لا تشيخ، فـ”أنا يمني” هي نبضها الذي لا يتوقف. وإذا كان لهذه الأنشودة جسد، فهو صوت العميد إبراهيم طاهر البلول (1945 – 2008). لم يكن ابن ريمة البار مجرد ضابط يؤدي أغنية وطنية، بل كان تجسيداً فريداً للثورة اليمنية؛ مناضل صلب على جبهة القتال، وفنان مرهف على وتر الإحساس.
المولد والعودة المقدسة
في منطقة البلول بمديرية كسمة بمحافظة ريمة، عام 1945، وُلد إبراهيم طاهر. بعد تعليمه في السعودية والتحاقه بالكلية الحربية بالرياض، كان نداء الوطن أعلى. فما إن اندلعت ثورة سبتمبر 1962 حتى عاد الشاب الطموح على متن أول سفينة رست في كمران، ليُشارك في صناعة الجمهورية.
التحق بركب الثورة مبكراً، عاملاً في إذاعة صنعاء، مقدماً برنامج “أحرار الجزيرة العربية”. ثم انضم إلى لواء الوحدة، وتلقى دورة في مدرسة المشاة المصرية. عاد ليخدم كقائد في معارك الدفاع عن الثورة، وعُيّن قائداً لجبهة بني حشيش، ليثبت أن الإيمان بالثورة أشد من نقص السلاح.
الجنرال الذي عزف للبندقية
تدرج البلول في مناصب عسكرية وإدارية حساسة، من إدارة شؤون الضباط وتجنيد الألوية، إلى إدارة المستشفى العسكري ونادي الضباط في الحديدة، وصولاً إلى مناصب قيادية في القوات المسلحة والبحرية.
لكن شغفه الفني كان يوازيه. ففي عام 1966م، أسس نادي الفنون الشعبية بالحديدة، ليكون جسراً بين الرصاصة والوتر. وهناك، قدّم نشيده الأشهر “أنا يمني” (من كلمات إبراهيم صادق)، الأغنية التي ما تزال تردد حتى اليوم. ورغم معارضة قيادته للغناء كونه ضابطاً، مضى في مسيرته الفنية.
عام 1972، ابتعثه الرئيس إبراهيم الحمدي إلى مصر لدراسة الموسيقى. عاد في 1980 ليؤسس ويدير مدرسة الموسيقى العسكرية بقرار من الرئيس علي عبد الله صالح. أنشأ البلول المدرسة من الصفر، وشكّل الفرق التي مثّلت النواة الأولى للموسيقى العسكرية، مخرجاً كوادر تخدم في القوات المسلحة.
رجل ريمة والمواقف الصعبة
عُرف البلول بـ”رجل المواقف الصعبة”. فخلال حصار السبعين يوماً (1967)، قاد طلائع المقاومة الشعبية من ريمة، بجيش من ثلاثة آلاف مقاتل، للمشاركة في فك الحصار. وكان وسيطاً ناجحاً لحل الخلافات بين الدولة ومشايخ ريمة بتفويض من الرئيسين السلال والإرياني، ولعب دوراً في لجان الوحدة بين الشطرين.
لكنه لم يكن مجاملاً في مبادئ الثورة؛ فقد ظلّ برتبة رائد لثمانية عشر عاماً، وعانى التهميش والمناطقية. وفي موقف يجسد عزة النفس، كان يحذف اسم نجله من كشوفات الترقيات في معهد الموسيقى، قائلاً: “لن أقبل بذلك لأنه سيقال إني من جاملت نجلي”.
تعرّض للتهميش المتعمد بعد تركه إدارة المعهد، وصولاً إلى سرقة سيارته التي كانت ملكاً شخصياً له، ما جعله يقول بمرارة: “كانت السيارة آخر حبل يربطني بالعمل العسكري والدولة، ولكنهم للأسف قطعوه”. اختار بعد ذلك صمت العظماء وعزة النفس.
في مطلع عام 2008، غادر العميد إبراهيم طاهر الحياة في عمّان، بعد صراع مع المرض، تاركاً خلفه رصيداً من الأوسمة العسكرية والأنغام الخالدة. ظلّ البلول، العسكري والفنان، رمزاً أصيلاً للإنسان اليمني الذي يُشيّد بالثورة ويغني للحضارة.