في سجل اليمن الحديث، لا يمكن تجاوز مسيرة اللواء الركن يحيى مصلح مهدي، الذي لم يكن مجرد جندي، بل رمزاً للمواجهة الشرسة ضد الظلم والاستبداد، ونموذجاً فريداً للقيادي الذي جمع بين صرامة الميدان ونظافة اليد.
حياته التي امتدت من قرية ريفية منسية إلى مركز صناعة القرار في صنعاء، هي مرآة صادقة لتاريخ الثورة والجمهورية في اليمن.
نشأة قهرت الظلم وتفوق عسكري كسر الحواجز
وُلد يحيى مصلح في عام 1938م في قرية البرار بناحية الجبين في ريمة، حيث بدأ صراعه مع الحياة مبكراً، مُهاجراً في السابعة من عمره إلى تهامة ليتزود بالعلم، رافضاً الاستسلام لواقع الفقر والإقصاء.
هذا التحدي أوصله إلى الكلية الحربية في صنعاء ليتخرج عام 1959م، مسجلاً سابقة كأول طالب يأتي بخلفية مختلفة عن النظام القائم. لم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل سافر إلى القاهرة وعاد في عام 1966م حاملاً شهادة الماجستير في العلوم العسكرية (أركان حرب)، ليصبح أول ضابط يمني بهذا المستوى العلمي، جاهزاً ليقود معارك التحرير بوعي ودراسة.
بطل السبعين ومُؤرِّخ الثورة بأمانة صادقة
انصهر يحيى مصلح في الحركة الوطنية ليصبح ركناً أساسياً في ترسيخ الجمهورية؛ فقاد معارك حاسمة مثل معركة حجة، وبلغ أوج دوره عندما تولى منصب رئيس عمليات القوات المسلحة المدافعة عن العاصمة خلال ملحمة السبعين يومًا الأسطورية.
لم يكتفِ بالبطولة العسكرية، بل آثر توثيق تجربته في مذكراته “شاهد على الحركة الوطنية”. هذا السفر اليمني يُعد وثيقة تاريخية نادرة، كشف فيها بـأمانة وصراحة عن الظلم المُضاعف الذي عانته مناطق التهامي وريمة، وعن صراعات الجمهوريين الداخلية، مؤكداً أن هدفه كان الانتصار للحقيقة المجردة.
نزاهة مطلقة وسيادة وطنية ثمنها الاعتقال
السمة الأبرز في مسيرة هذا القائد هي نزاهته المطلقة التي حظيت بـإجماع النخب السياسية؛ فبرغم تقلبه في مناصب عليا (وزير، محافظ، وسفير)، لم تلوث تاريخه شبهة فساد أو استغلال نفوذ، وظل يُعرف بـنظافة اليد والقلب واللسان. هذه النزاهة تجسدت في موقفه الأبرز عندما فضّل الاعتقال في القاهرة (1966-1967م) على تولي منصب رفيع، رافضاً أي وصاية خارجية وانحيازاً لاستقلال القرار الوطني. لقد ظل يحيى مصلح، حتى وفاته في القاهرة في 2 فبراير 2021م، مثالاً للقيادي الذي يضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.
لقد رحل اللواء يحيى مصلح تاركاً خلفه إرثاً عسكرياً وإدارياً وأخلاقياً يمثل تحدياً للقيادات المتعاقبة. إن قصته هي تأكيد على أن الإرادة الحرة والتفاني الصادق للوطن هما البوصلة الحقيقية لأي قائد يسعى للمجد الدائم لا الزائل.