بعزيمة وصبر منقطع النظير، يداوم محمد الواقدي،40 عامًا، منذ بدء عصافير الصباح تغاريدها معلنةً ميلاد يومٍ جديد، وحتى تميل الشمس نحو الغروب، على العمل كل يوم في مشروع شق الطريق على امتداد منتصف جبل شاهق في محافظة ريمة، حيث ينحت ورفاقه من أبناء قريته طريقًا إلى منطقتهم النائية المنسية من قائمة حكومات متعاقبة مضت.
على طول طريق جبلي فرعي في عزلة بني واقد بمديرية الجعفرية – إحدى مديريات ريمة، وتقع في القسم الغربي من المحافظة التي تقع على بعد نحو (200) كيلو مترًا عن العاصمة صنعاء – يعمل “محمد” على آلة حفر الصخور الخاصة به “الكمبريش” ويتنقل بين الصخور الضخمة التي يعجز العاملون عن تجاوزها، فيقوم بتفجيرها لإزاحتها عن الطريق.
يقول محمد لـ”ريمة بوست” إنه يقضي معظم أيامه متنقلاً بآلته تلك “الكمبريش” على طول الطريق الذي يتم شقه على حساب الأهالي (مساهمة مجتمعية) في بني عزلة واقد بمديرية الجعفرية. وكغيره من أهالي القرى الأخرى، يعمل محمد بإصرار لإنجاح مشروع شق الطريق الذي سيربط قرية “القطعة” في بني واقد بالطريق الرئيسي الممتد إلى مدينة بيت الفقيه (شرقي الحديدة).
الانتظار الطويل
“لا ننتظر حكومة أيًا كانت” بتلك العبارة التي تحمل في طياتها الكثير من المعاناة يتحدث أبناء القرية، عن طريق فرعية تمتد لأكثر من 3 كلم فوق الصخور الوعرة صعودًا، شيدوها بسواعدهم إلى منطقتهم رغم ظروف المعيشة القاسية التي يعيشونها، والناتجة عن الحرب المستمرة للعام السابع على التوالي في البلاد.
كبيرة هي المعاناة التي عاشها أهالي قرية “القطعة” الواقعة في عزلة بني واقد التي يتجاوز عدد سكانها 9 آلاف نسمة، – بحسب نتائج التعداد السكاني لعام 2004م – في ظل صعوبة التضاريس وعدم وجود طريق يعتبر بالنسبة لهم حلمًا ظل يسلب اهتمامهم لسنوات كثيرة مضت، لكنهم بعد ذلك هزموا كل الصعوبات وشقوا طريقهم بسواعدٍ قوية وأكف سخية.
يقول طاهر علي،45 عامًا، وهو أحد القائمين على المبادرة المجتمعية: “طوال سنوات ونحن ننتظر بلهفةٍ أن نحظى بلفتةٍ من أي جهة حكومية، وطوال حكومات ثلاث متعاقبة، لنحصل على أبسط حقوقنا من الدولة والمتمثل بطريق إلى منطقتنا الجبلية.. لكن لا شيء تحقق”.
ويضيف طاهر لـ”ريمة بوست”، أن منطقتهم وغيرها من قرى ريمة التي تحتاج إلى مشاريع خدمية مختلفة خصوصًا مشاريع الطرقات؛ تعتبر منسية من خارطة الحكومات اليمنية المتعاقبة، وهو الأمر الذي دفعهم – حد تعبيره – إلى عمل مبادرة ذاتية لشق الطريق على نفقة الأهالي لتحقيق ما يصبون إليه والتخفيف من المعاناة التي يلاقونها.
مبادرة ذاتية
عن تلك المبادرة التي بدأت عملية شق الطريق منتصف العام المنصرم، يوضح طاهر علي لـ”ريمة بوست” إنها مبادرة تعتمد على المساهمة المجتمعية، وذلك من خلال التبرع كلاً بقطعة الأرض التي يمتلكها وتمر بها الطريق، إضافة إلى جمع مبالغ نقدية من كافة أبناء القرية المغتربين لشراء أراضٍ تمر بها الطريق وتتبع أشخاص من قرى أخرى، كونهم غير مستفيدين منها.
المواطن غالب عبدالله الواقدي، 55 عامًا، أحد المساهمين في شق الطريق وذلك من خلال تبرعه بمساحة من الأراضي الزراعية التي مرت منها الطريق، إضافة إلى مشاركته في عملية الشق ومساهمة نجليه المغتربين في التبرع لصالح المشروع، وهو نموذج واحد يشابه عشرات الأهالي في قرى القطعة، المورد، الذاري، والذين ساهموا بكل إمكانياتهم في إنجاح عملية الشق.
يقول غالب، إن العمل باليد في شق ورصف الطريق الذي يزيد طوله عن 3 كيلو متر، من آخر موقف سيارات في سفح الجبل وحتى القرية؛ وقع على عاتق جميع أبناء القرية المتواجدين فيها، فيما كان على المغتربين من أبناء المنطقة المساهمة بمبالغ مالية تساعد في توفير مواد ومتطلبات العمل الذي استمر لما يقارب العام.
وبحسب طاهر علي، أحد القائمين على المبادرة المجتمعية، فقد بلغت ميزانية مشروع شق الطريق البالغ طوله 3 كيلو متر، ما يقارب 31 مليون ريال يمني (52 ألف $)، كلها من أموال الأهالي والمغتربين من قرى القطعة والمورد والذاري في عزلة بني واقد، في بادرة تعاونية أسهمت في تحقيق مشروع تنموي يخدم المنطقة.
فرحة الوصول
في بداية العمل جاؤوا بآلة شق الطريق “دركتل” لكنها لم يستمر غير شهر ونصف تقريبًا، وذلك بسبب تكلفة أجوره العالية، التي تصل ما يقارب 24 ألف ريال في الساعة الواحدة، وهو مبلغ يفوق قدرة الأهالي المادية بـ 10 أضعاف، حيث فضّلوا حينها – بحسب محمد الواقدي- إكمال الشق بأيديهم دون كلل أو ملل، حتى وصلت الطريق إلى قريتهم.
كان وصول الطريق إلى قرية القطعة والقرى المجاورة لها في إبريل المنصرم 2021م، إنجازًا كبيرًا يتفاخر به الأهالي، بعد أن ظلوا لسنوات يفتقرون إليه، حيث يرى المواطن غالب عبدالله، إنه إنجاز مجتمعي عجزت الأطراف السياسية عن الإتيان بمثله. معبرًا عن اعتزازه بما حققه تعاون الأهالي في نجاح شق الطريق رغم وعورة المنطقة الجبلية.
ويضيف أن وصول طريق السيارة إلى القرية، أمرًا مهمًا من شأنه التخفيف من معاناة المجتمع والمساهمة في توفير كثير من الخدمات المنقذة للحياة للسكان في قرية القطعة والقرى الأخرى حولها، إلا أن الطريق – بحسب الأهالي – بحاجة إلى رصف حجري في بعض الأماكن والمنعطفات لتلافي تعرضه للتخريب والانجراف خلال مواسم الأمطار والسيول، وهو الأمر الذي يسعى لتحقيقه خلال المرحلة القادمة.
وخلال السنوات الخمس الأخيرة، اضطر سكان العديد من القرى والمناطق في محافظة ريمة، إلى تنفيذ مبادرات مجتمعية تهدف إلى التخفيف من معاناتهم، عبر توفير بعض الخدمات الأساسية والضرورية للحياة، ومنها شق الطرقات إلى قراهم المنتشرة على قمم الجبال الشاهقة.