لم يعد اغتراب رب الأسرة خارج اليمن أمرًا هينًا بالنسبة للكثير من الأسر خصوصًا خلال السنوات الأخيرة التي رافقها تدهور اقتصادي وصعوبة في توفير الاحتياجات المعيشية نتيجة الحرب وآثارها.. وبدورها أدت تلك التراكمات إلى حشد مسؤوليات مختلفة أثقلت كاهل المغترب وأجبرته على دفع سنوات عمره في الغربة ثمنًا لتوفير عيش كريم لأبنائه وأسرته، ما زاد في ذات الوقت من المسؤوليات الأسرية التي تقع على عاتق المرأة الريفية في ظل غياب الزوج لسنوات عديدة.
“جميلة اسماعيل”، 30 عامًا، أم لثلاثة أطفال، أكبرهم ذو 10 أعوام، وأصغرهم 3 أعوام، كان ما يزال في أحشائها حين سافر زوجها للاغتراب لتحسين الوضع المعيشي، وحتى الآن مرت 3 أعوام لكنه لم يعُد بعد. تقول إنها منذ ثلاثة أعوام تتحمل مسؤولية الأسرة وتربية الأبناء وتعلب دورها كأم وأب في ذات الوقت، حيث تؤمن احتياجات المنزل وتقوم بتربية الأبناء ومتابعة دراستهم، إضافة إلى الاهتمام بالأرض وزراعتها.
تضيف لـ”ريمة بوست”: “تربية الأبناء في هذه المرحلة العمرية تحتاج إلى جهد أكبر، فإذا مرض أحدهم اضطر لأخذه إلى المركز الصحي وأحيانا يساعدني أحد أشقائي إذا ما تطلب الأمر السفر إلى الحديدة أو صنعاء للعلاج وغيرها، وبقيت أتحمل المسؤولية وحدي دون سند بجانبي”.
بعد سفر الزوج للاغتراب ظلت الأسرة والأبناء ينتظرون لحظة عودته بشغف ولكن تقول الزوجة، أن مع مرور السنوات وطول فترة الاغتراب بدأوا جميعًا التأقلم على الحياة بمفردهم والاعتياد على غيابه، وبالرغم من اتصالاته اليومية إلا أن ذلك ليس كافيًا، كما تشير إلى أن “غياب الزوج لفترة طويلة يسبب شرخًا في كيان الأسرة التي تحتاج إلى عودته بشكل منتظم لتحمل مسؤولياته وواجباته”.
غياب الأب
مرت ما يقارب 15 عامًا منذ أن اختار “ح. ص” درب الاغتراب في إحدى الدول المجاورة لكسب لقمة العيش وتحمل مسؤولية إعالة أسرته المكونة من والديه وزوجته وأبناءه الثمانية، وهو قرار اتخذه بعد أن لاقى صعوبات معيشية بسبب قلة الدخل وعدم حصوله على فرصة عمل يستطيع من خلالها توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الضرورية له ولعائلته، فكانت الغربة الخيار المناسب حينها لكنه قرار سلبي في ذات الوقت، تقول زوجته “افتخار” (اسم مستعار).
وتضيف “افتخار” 41 عامًا، وقد اشترطت إخفاء هويتها، أن الغربة والتزاماتها أثرّت بشكل سلبي على حياتها واستقرارها الأسري، حيث تعاني في تربية الأبناء خصوصًا الأولاد كونهم يرون غياب الأب فرصة لفعل ما يحلو لهم ولو في الدرب الخاطئ، في حين تتحمل الزوجة المسؤولية واللوم عن تربيتهم رغم معاناتها، فتصبح هي الضحية أمام زوجها وأمام الآخرين، بينما الزوج الغائب يضعون له المبررات بكل سهولة.
وترى “افتخار” أن بالرغم من قدرة الأم على تربية الأبناء إلا أن تربية ثمانية أولاد (ذكور وإناث) بأعمار متفاوتة ومتابعة حياتهم الدراسية وأطباعهم ومن يصادقون ومع من يذهبون؛ أمرًا صعبًا ويشكّل لها كابوسًا.. “أحيانا تمرد أحد الأولاد ومصادقة أصدقاء سوء وغيرها من التصرفات السيئة يتطلب وجود الأب فهو الرادع الذي يستطيع السيطرة عليهم وعلى تصرفاتهم وتقويم سلوكياتهم. أما أنا فصعب أستطيع التحكم بكل شيء في وقت واحد”.
حتى مع عودة رب الأسرة خلال فترات متباعدة، تعتقد “افتخار” أنه يظل أثناء فترة عودته كضيف مؤقت لا تزيد مدة بقائه عن شهرين بعد غياب يدوم لعامين أو ثلاثة أعوام، ما يجعل علاقته الزوجية وعلاقته بأبنائه غير متينة ويشوبها اختلالات كثيرة. وتشير إلى أن “الغياب المتكرر لرب الأسرة له أضرار نفسية على الزوجة خاصة إذا تركت لها مسؤولية تربية الأبناء وحدها، والانفاق عليهم في أجواء أسرية تفتقر لوجود زوج يشاطرها حياتها اليومية وهمومها الأسرية”.
ومن الناحية النفسية، تقول الاخصائية الاجتماعية منى العريقي، إن بُعد الأب وغيابه الدائم يضعف الجانب العاطفي لدى الأطفال، وهو ما يؤدي إلى انخفاض مستوى الحنان والمحبة بين الأب وأبنائه، وبالتالي قد يتسبب بحدوث اضطرابات نفسية عند الأبناء، لافتقارهم وجود القدوة والسند والقوة في المنزل.
وتضيف لـ”ريمة بوست” أن تحمل الأم العبء الأكبر من مسؤولية تربية الأبناء، في جميع الجوانب، قد يؤدي إلى تقصيرها في هذا الجانب، بسبب غياب دور الأب الذي لا غنى عنه في تحقيق الاستقرار العائلي داخل الأسرة.
فتور عاطفي
من جهة أخرى، لا تخفي (س. ع)، 37عامًا، أن حياتها تضررت من الغربة وأصبحت بلا طعم رغم يُسرها المادي الذي تحسده عليه قريناتها. تقول: “تزوجت بطريقة تقليدية ولا أشجع الفتيات عليها. وبعد أن تم الزواج – الذي كان حديث المنطقة لكثرة الاسراف والتباهي بالمال – سافر زوجي بعد شهر واحد، ولم يعد إلا بعد بلوغ طفلي الأول عامه الأول، وقضى معنا أربعين يومًا ثم عاد أدراجه وغاب حتى أكمل طفلي (الثاني) عامًا ونصف العام”.
وتردف لـ”ريمة بوست” قائلة: “استمر هذا الحال حتى أنجبت خمسة أطفال، والآن بعد أكثر من (12) عامًا على زواجي، محصِّلة التقائي بزوجي لا تتجاوز العامين!! فهل هذا عدل؟! هل اختزلت الحياة في جمع المال؟ وأين حقوقي كزوجة وقد حدد الشرع فترة الغياب؟! إن زوجي كل همّه أن يجمع أكبر قدر من المال، ويمتلك أكبر عدد من المنازل والسيارات ليتفاخر بها أمام أهله وأصدقائه، وأنا وأطفالي ندفع ثمن هذا الأمر!”.
وتشكو أن غياب زوجها لفترات طويلة يؤثر سلبًا على علاقتهما العاطفية، فحين عودته تشعر بفتور عاطفي تجاهه، لأن البُعد تسبب بفجوة بينهما ولم يعودا بذات التفاهم والانسجام الذي كانا عليه في الماضي، ما يؤثر على استقرارهما الزوجي ويجعلهما غالبًا في حالة قلق وتوتر من أن يصل بهما الحال حد فشل علاقتهما الزوجية، وهو أمر تتمنى أن لا يحدث، فهي غير مستعدة لتفكيك كيان الأسرة التي هي عِمادها الأساسي.
سقف زمني للغربة
يقول القاضي “توفيق الضبيبي”: إن الكثير من اليمنيين لا يضعون سقفًا زمنيًا لفترة الاغتراب في حياتهم، وهو ما يجعل البعض يظل لما يقارب عشرة أعوام في الغربة دون مراعاة مسؤولياته كرب أسرة له أبناء وزوجة ينتظروه بصمت. مشيرًا أن هذه تسمى هجرة وليست غربة من أجل كسب لقمة العيش.
ويضيف الضبيبي، أن في حال اضطر الزوج للمكوث أطول بسبب مسؤوليات العمل، فالأجدى أن يأخذ أسرته معه، فهذا يراعي حقوق أهله عليه، ويبعده أيضًا عن الدخول في علاقات غير شرعية يفرزها الغياب الطويل.. “وعليه أن يوفق بين الأسرة والمال، وإذا لم تكن لديه القدرة على تحمل ذلك فالأفضل أن لا يتزوج لأن الزواج شراكة”.
ويرى أن الزوجة تتعرض للكثير من الضغوطات في ظل غياب الزوج من ناحية اقتصادية وتربوية ونفسية، ما قد يسبب بعض الاضطرابات مثل الأرق والقلق النفسي وعدم القدرة على اتخاذ القرارات السليمة، ويعتمد ذلك على عدة عوامل أهمها قوة شخصية المرأة ودرجة تعليمها ومدى قدرتها على تحمل المسؤولية.
تحرير:ريمة بوست