“الصيد والاعتقال ” عن رحلةٍ تُشبه طعم البحر

شاطى البحر الاحمر الحديدة/كمال الشاوش
‏  11 دقائق للقراءة        2013    كلمة

بهدوء لا يبدده سوى هدير الأمواج ونعيق الغربان، يجلس الخمسيني عبده حسن الحديدي، على رمال الشاطئ في حضرموت، متأملا البحر وحركات المد والجزر التي اعتاد على رؤيتها منذ أن بدأ العمل في مهنة الصيد بمدينة الحديدة قبل ما يقارب 30 عامًا، والتي عاش فيها مخاطر عديدة، أخرها تعرضه للاحتجاز ومصادرة قارب الصيد الخاص به من قبل خفر السواحل الارتيرية قبل أشهر قليلة.

 

عبده حسن الحديدي، أحد أبناء عزلة الحديدية بريمة، امتهن الصيد منذ كان شابًا، وعاش في مدينة الحديدة مع أسرته من ذلك الحين، لكن المواجهات العسكرية قبل عامين دفعته لنقل أسرته المكونة من زوجته وأبنائه الثمانية، إلى عزلته في الجبين بريمة، ومن ثم العودة لممارسة عمله في البحر في الحديدة، مع ولده نواف ذو الثانية والعشرين عامًا.

 

احتجاز قسري

 

في 17 من شهر شوال المنصرم، الموافق 9 يونيو 2020م، خرج عبده حسن الحديدي، برفقة ولده نواف وسبعة أشخاص آخرين، استقلوا قارب الصيد “الهوري” في ميناء الحديدة، وأشعلوا المحرك “الماكينة” وانطلقوا في البحر باحثين عن رزقهم، ولكن رحلة الصيد تلك لم تنتهي كسابقاتها.. “مشينا في البحر حوالي خمسة أميال، وفي اليوم التالي اعترضتنا دورية مسلحة من خفر السواحل الارتيريين، وأخذونا إلى جزيرة اسمها “قيده” وبقينا محتجزين فيها لستة أيام،” يقول عبده حسن.

 

ويضيف لـ”ريمة بوست”، أن قوات خفر السواحل الارتيرية احتجزتهم بينما كانوا يصطادون في المياه الدولية، ولم يكونوا قد دخلوا في المياه الإقليمية الارتيرية، مشيرًا أن خفر السواحل في ارتيريا لم يكن من قبل يقوم باحتجازهم في ذلك المكان، غير أنهم خلال الأعوام الأخيرة يقومون باحتجاز أي قارب صيد يقترب من تلك المياه، حد قوله.

 

على مدى ستة أيام من احتجاز “عبده حسن” ورفاقه في جزيرة “قيده”، ظلت وحدات خفر السواحل تنفذ دوريات بحرية للقبض على صيادين جدد، لكنها لم تجد أحدا، فعادت إلى الجزيرة وقامت بنقل المحتجزين إلى مرسى يسمى “مرسى فاطمة البر الأصيل” وهناك وضعوا في غرفة صغيرة من الصفيح، لمدة شهر كامل، كحجر صحي من فيروس كورونا كـوفيد 19.

 

خلال فترة الحجر الصحي التي قضاها عبده حسن ورفاقه، كانت أسرهم في اليمن لا تعلم عنهم شيئًا، وليس بوسعها سوى مكابدة الهم والقلق على مصيرهم، إذ يقول: “أخذوا مننا كل شيء ولا يخلونا نتصل ونطمئن أهالينا، أنا جلست شهر ولا حد داري وين أنا”.

 

ويستدرك، أن قبل نقلهم من المحجر الصحي، صادف أن هناك أربعة إرتيريين محتجزين معهم في ذات الغرفة، وهم الذين ساعدوهم في طمأنة أهاليهم: “كان معنا أربعة ارتيريين محتجزين بتهمة التهريب، كان والد أحد أولئك الأربعة يعرف المسؤول عن الاحتجاز، لذلك تساعد معه وقام بإخراجه، وقتها أعطيناهم أرقام أهالينا في اليمن ليتصلوا بهم ويطمنوهم أن احنا محتجزين في ارتيريا”.

 

أوضاع غير إنسانية

 

بعد انقضاء فترة الحجر الصحي، نقلت خفر السواحل الارتيرية عبده حسن ورفاقه إلى حوش خاص بالصيادين المحتجزين، وهناك تفاجأ “عبده” بوجود العشرات من الصيادين اليمنيين المحتجزين، يعيشون أوضاع صعبة في ظروف غير ملائمة لبني البشر.. “وضعونا بجانب محتجزين آخرين في حوش صلبة (أرض ترابية)، ليس هناك سوى أعمدة خشبية واقفة عموديا وفوقها أسقف من أوراق الشجر وعسف النخيل، كنا نجلس تحتها في النهار، وبالليل نخرج لننام على الرمل”.

 

ظروف سيئة عاشها المحتجزون، حيث يفتقرون إلى أبسط الخدمات ولا يحصلون على أكل مناسب، إضافة إلى الأعمال الشاقة التي كانوا يرغمون على القيام بها، إذ يقول عبده حسن: “لم تكن متوفر هناك إي حمامات، فقط في اليوم معنا مرتين نروح الساعة 5 الفجر والساعة 5 العصر، ولو يشتي الواحد يتبول يضطر التبول في دبه، وفي الصباح يروح الواحد يصبها في الرمال بمنطقة بعيدة”.

محطات من معاناة الصياد
محطات من معاناة الصياد

يستذكر عبده حسن التفاصيل السيئة التي مر بها أثناء احتجازه.. “كانوا يرغمونا على القيام بأعمال شاقة كل يوم، ولا يوجد وقت محدد للعمل.. “أحيانا نعمل لمدة ساعتين وأحيانا ست أو سبع ساعات، بحسب نوعية العمل، في الصباح نروح ننقل أحجار من منطقة بعيدة فوق قلاب كبير، نتعاون خمسة أو ستة أشخاص عشان نرفع الصخرة الواحدة، وفي العصر نشتغل حجر وطين أو نحفر أساسات لبنايات حديثة”.

 

الشاب نواف نجل عبده حسن، هو الآخر يشاركنا الحديث حول المعاناة التي عاشها في الاحتجاز في ارتيريا مع والده: “كنا في الصباح ننقل الصخور ويتم وضعها على الساحل لتكون حواجز صخرية تصد الأمواج، وعندما كنا ننتهي من عمل كل شيء، لا يروق لهم ذلك، فيقومون بأخذنا لتنظيف الكافتيريا الخاصة بهم وكذلك تنظيف المخازن، كما نقوم بحمل دبات الماء لنسقي الأشجار المحيطة بمنزل المسؤول عن المحتجز الذي كنا فيه”.

 

ويضيف نواف لـ”ريمة بوست”، أن الضابط المسؤول عن المحتجز يدعى “أحمد ولد حالمه” وهو أحد أفراد قوات خفر السواحل الارتيرية، وقد عرف الاسم من خلال ما كان يسمع زملاؤه ينادوه، مشيرًا، إلى أن بالرغم من عدم وجود سور يحيط بالمكان الذي احتجزوا فيه إلا أنهم لا يستطيعون الهرب، لأن الجنود بأسلحتهم يراقبونهم طوال الوقت.

 

ويوضح فيديو مصور نشرته قناة العالم مطلع فبراير 2021م، الوضع السيء الذي يعيشه الصيادون اليمنيون المحتجزون في ارتيريا، وهو الأمر الذي عدّه حقوقيون، انتهاكًا للقوانين الإقليمية والدولية الخاصة بحقوق الإنسان إذ تنص المادة السابعة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة”. فيما تنص الفقرة الأولى من المادة رقم (9)، على أنه “لا يجوز توقيف أحد أو اعتقاله تعسفا. ولا يجوز حرمان أحد من حريته إلا لأسباب ينص عليها القانون وطبقا للإجراء المقرر فيه”.

 

العودة بحقوق مسلوبة

 

مع مرور كل يوم كان عدد المحتجزين يتزايد حتى أصبح عددهم 198 محتجزًا كلهم من اليمنيين وفقًا لـ “نواف”، وذلك بعد أربعة أشهر من احتجاز نواف ووالده ورفاقهم السبعة، حينها يقول نواف: “كان هناك 23 صياد محتجزين منذ 11 شهرا، لذلك قال المسؤول على الاحتجاز، أن من قضوا 11 شهرا، عليهم أن يخرجوا لأنهم أكملوا المدة القانونية للحجز وما التأخير إلا بسبب إجراءات فيروس كورونا”.

 

بعد خروج الدفعة الأولى الذين عددهم 23 محتجز، قام المسؤولون بإعداد كشوفات بأسماء المحتجزين اليمنيين وأعمارهم وحالاتهم الصحية، بحيث تم تحديد كبار السن وصغار السن والأشخاص المصابين بأمراض ظاهرة، ليتم وفق ذلك الإفراج عنهم لأن لهم الأولوية، وقد كان والدي “عبده حسن الحديدي” وأربعة من رفاقه من ضمن المحتجزين المفرج عنهم، وبقيت أنا وثلاثة من رفاقي ومحتجزين آخرين، يواصل نواف حديثه.

 

في شهر أكتوبر 2020م عاد الخمسيني “عبده حسن” ومعه ما يقارب 100 فرد من الصيادين اليمنيين المحتجزين إلى ميناء الخوبة في الحديدة، عبر قاربين تعود ملكيتهما لصياد يمني يقوم دائمًا بإعادة المحتجزين مجانًا إلى اليمن، حيث يتعامل بشكل متواصل مع المسؤول على المحتجزين الذي يدعى “أحمد ولد حالمة”، فيما قوارب الصيادين المحتجزين وكل ما كان ما معهم، قد تم مصادرته من قبل البحرية الارتيرية، ليعودوا فارغي الأيدي، لا يحملون سوى فرحة العودة إلى ديارهم بعد معاناة الاحتجاز التعسفي، حد وصف عبده حسن.

 

بالرغم من خروج “عبده حسن” من المعتقل إلا أن فرحة الأسرة لم تكتمل، بسبب بقاء ولده نواف في الاحتجاز، ولكن لم تمر سوى شهرين حتى أفرج أيضًا عن “نواف” ورفاقه الثلاثة في نهاية ديسمبر 2020م، ضمن دفعة جديدة من المحتجزين تضم 30 صيادًا، ليتم نقلهم بعد ذلك إلى منطقة الخوبة في محافظة الحديدة، وهي اللحظة التي كان يتمناها “نواف” حيث يتوق لرؤية طفلته البكر التي غادرها ووقع في الاعتقال وعمرها لا يتجاوز عشرة أيام، بحسب حديثه لنا.

 

ويضيف نواف: “بعدما خرجنا نحن من الاحتجاز، تبقى ما يقارب 60 صيادًا يمنيًا، في مكان الاحتجاز الذي يقع في “مرسى فاطمة” ويشرف عليه الضابط في خفر السواحل الارتيرية “أحمد بن حالمه”، ولا أدري هل خرجوا أم لا”.

 

انتهت معاناة الصياد عبده حسن، بخروجه هو وولده ورفاقهم السبعة من المعتقل الارتيري وعودتهم إلى أسرهم، لكنه فقد قارب الصيد الذي تزيد قيمته عن 6 مليون ريال يمني، حيث تمت مصادرته من قبل قوات خفر السواحل الارتيرية، وبالرغم من ذلك يقول والرضاء بقدر الله يتجلى في حديثه: “لما أخرجونا هربونا من هناك مع واحد يمني مرخص إلى ميناء الخوبة، وأخذوا الممتلكات وكل شيء معنا، أخذوا الهوري (القارب) وكل المكائن. يخلوا الواحد يخرج حافي القدمين، لكن الحمدلله رب العالمين أراد الله وما شاء فعل. أهم شيء العافية وربي بيعوضني”.

 

معاناة فاقمتها الحرب

 

على مدى السنوات الماضية يتعرض الصيادون اليمنيون لاعتقالات تعسفية من قبل خفر السواحل الارتيرية في المياه الإقليمية اليمنية أو في المياه الدولية، بحسب الحكومة اليمنية المعترف بها، حيث دعت في يونيو الماضي 2020م، السلطات الإريترية إلى “وقف الاعتداءات وعمليات الاختطاف المتكررة للصيادين اليمنيين، وإطلاق سراح الصيادين الذين تم اختطافهم من المياه الإقليمية اليمنية، وتسليم القوارب والمعدات التي تم الاستيلاء عليها”.

 

ويعد القطاع السمكي من أكثر القطاعات الاقتصادية المتضررة من الحرب الدائرة في اليمن، إذ تعرض لأضرار طالت الأسماك والأحياء البحرية والصيادين والقوارب والموانئ والمصائد والمؤسسات، ما أدى إلى تراجع إنتاج اليمن من الأسماك إلى نحو 70 ألف طن سنويًا مقارنة بـ 200 ألف طن قبل اندلاع الحرب، وأثر على حياة أكثر من 500 ألف نسمة يعملون في أنشطة الصيد، ويعيلون قرابة 1.7 مليون نسمة، وفقًا لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية.

 

وبسبب الحرب وآثارها على الوضع المعيشي للأسرة، وجد “عبده حسن” نفسه مضطرًا إلى العودة لممارسة عمله في الصيد رغم المخاطر التي تحدق بالصيادين اليمنيين، فاختار حينها السفر إلى محافظة حضرموت لاستئناف نشاطه في مهنة الصيد هناك، وهو الأمر ذاته الذي اتخذه ابنه نواف، فلم يمضي سوى شهر وبضعة أيام منذ خروجه من الاحتجاز في ارتيريا، حتى سافر إلى حضرموت لممارسة مهنة الصيد برفقة والده، باستخدام قارب صيد آخر يمتلكوه، في حين ما تزال الأسرة تقطن في ريمة حتى يتحسن الوضع ليعودوا للعيش معًا في منزلهم بمحافظة الحديدة.