هنا، في جنوب شرق مديرية كسمة الشامخة، تنتظرك بقعة من الأرض لم تُسلب من التاريخ. هي عزلة “الضبارة”، التي لا تكتفي بجمال ريفها الأخاذ، بل تفرض نفسها كصفحة أولى في كتاب الوجود الحميري القديم. الضبارة ليست مجرد حدود إدارية؛ إنها ذاكرة ترفض النسيان، وبوابة حجرية تطل على القرون الغابرة.
سيدة المساحة ونبض الوديان
تبدأ الحكاية بـ الموقع والامتداد. فالضبارة، يا سادتي، تتربع على عرش المساحة في كسمة، مُستحوذة على قرابة 30% من المديرية بمساحة تصل إلى 65 كيلومتراً مربعاً. وكأنها سيدة المكان بلا منازع.
هذا الاتساع الجغرافي يلامس حدود مزهر شرقاً، ويرتكز على وادي رماع جنوباً، ليُعلن عن موقعه كبوابة تاريخية. هنا، يتوزع أكثر من عشرة آلاف نسمة (10,100) على هذه المساحة، يعيشون في فسيفساء من 11 قرية رئيسية تتشعب منها 234 محلاً، لترسم خريطة سكانية تُشبه عقد لؤلؤ مُتناثر بين الجبال.
أسرار الأرض وأصداء الحميريين
لكن، القصة المثيرة لا تكمن في الجغرافيا وحدها، بل في الأسرار المدفونة تحت أقدامنا. ولحسن الحظ، هناك من يمتلك مفاتيح هذه الأسرار.
فالمؤرخ والباحث حيدر علي ناجي العزي، ابن ريمة وذاكرتها الحية، هو من أزاح الستار عن الجذور التاريخية لهذه العزلة، مؤكداً أن الضبارة ليست موطناً حديثاً، بل هي مهد قبائل ظلت متمسكة بأصالتها:
* بصمة “وثن”: يشير المؤرخ العزي إلى أن الضبارة تحتفظ بذكرى شخصية وثن بن كرب إل، وهو من أبناء جبلان الحميري. المنطقة لا تزال تحمل اسم “وثن”، كدليل حي على استمرارية التسمية.
* “بني الشماخ” وسيوف شرعب: يؤكد المؤرخ أن قرية “بني الشماخ” في الضبارة، هي شاهد على أن شماخ بن شرعب هو الأصل الثاني للشراعب، تلك البطون التي انتشرت في اليمن، والتي عُرفت بـ الرماح الشرعبية الشهيرة.
* ألغاز “الأعصور” و “ذي”: يشدد العزي على أصالة التسميات القديمة؛ فقرية “الأعصور” التي تضم أكبر عدد من المحلات، جاءت على وزن (افعول) الحميري الأصيل. ولا يمكن تجاهل المحلات التي تبدأ بـ “ذي” مثل “ذي ثورين” و”ذي سحوب”، مؤكداً أن هذه الألقاب كانت حكراً على السلالات الحميرية القديمة التي استوطنت هذه الأرض.
* الهجرة والمخطوطات: كما يشير المؤرخ إلى أن المخطوطات القديمة، مثل مخطوط “الشمعة المضيئة”، تذكر أن أهل الضبارة ربما يكونون قد جاؤوا من “الضبارتين” في تهامة (المنصورية حالياً)، مُعلناً بذلك عن هجرة قديمة تربط جبال ريمة بسواحلها.
“الضبارة” اليوم، بقراها الـ 11 ومحلاتها الـ 234، ليست سوى حارس أمين لهذه الأسرار التي كشفها المؤرخ العزي. هي المكان الذي يُثبت أن التاريخ في اليمن ليس مجرد صفحات في كتاب، بل هو حياة يومية تُروى في كل كيلومتر مربع. هنا، في ريمة، التاريخ لم يرحل.. بل اتخذ مكاناً ليستقر فيه للأبد.