عند السادسة من كل صباح، تخرج فاطمة من منزلها وقريتها متجهة لأماكن تنمو فيها الحشائش والأعلاف لتملأ الكيس الذي بحوزتها، حيث تذهب إلى أماكن بعيدة ومتفرقة، فتقضي جل وقتها في التنقل والبحث، لتعود في الظهيرة وقد أنهكها التعب.. “بعد هذا التعب كله ما جمعته ليس كافيا ليشبع أربعة رؤوس بقر و8 رؤوس من الماعز” تقول فاطمة لـ”ريمة بوست”.
فاطمة صالح، 60 عامًا، بمديرية الجبين، تعتمد على تربية المواشي كمصدر دخل وحيد، تبذل لتربيتها والاعتناء بها جهودا مضنية لا سيما مع شحة الأمطار هذا العام نتيجة التغيّر المناخي، الأمر الذي ضاعف مجهودها ومعاناتها، في ظل جفاف المراعي القريبة منها، واضطرارها للذهاب إلى مناطق بعيدة ووعرة من أجل الحصول على الأعلاف.
تضيف المرأة التي قد بلغ عمرها الستين عامًا، أنها مضطرة للعمل في تربية المواشي فليس معها سوى ابنة واحدة، تتركها لتقوم بأعمال المنزل، وتتكفل هي بأمر جلب الأعلاف من أماكن مختلفة.. “عند وصولي لأماكن جمع الأعلاف يستغرب الذين لا يعرفون وضعي, ويقولون أنّي أصبحت كبيرة جدا على جمع العلف من الأماكن البعيدة”.
أميرة محمد، 22 عامًا، هي الأخرى تعمل في الزراعة وتربية المواشي، ولم تكن بمنأى عن موجة الجفاف في ريمة وغيرها من المحافظات، فبعد أن أصبحت خزانات جمع مياه الأمطار فارغة، اضطرت لجلب المياه من الغيول الطبيعية لتسقي المواشي، بل أنها تقوم في الغالب بجلب المياه في الليل، تفاديًا لازدحام الناس في النهار بجوار الغيل الوحيد في القرية، حد تعبيرها.
مواشي بأثمان بخس
تمتلك فاطمة أربعة رؤوس من البقر ولا يكفي ما تجمعه من الأعلاف لسد حاجة أبقارها، فتضطر لشراء الأعلاف في بعض الأحيان، رغم ارتفاع ثمنها مقارنة بالوضع المادي للأسرة، وهو الأمر الذي يدفعها للتفكير بجدية في بيع بعض ماشيتها، لتخفف عن نفسها القليل من المعاناة, لكن انخفاض أسعار الماشية في الأسواق يجعلها دائمًا تتراجع عن فكرة البيع، خشية على ضياع جهدها وبيعها بثمن بخس، حد تعبيرها.
وتردف فاطمة: “قبل الجفاف كنا نبيع العجل الكبير أو الثور بـ 400 ألف أو 500 ألف, لكن هذه الأيام إذا قررت تبيع فقط يدفعون النصف, أما الماعز بحسب حجم الخروف يحدد سعره، فكنت أبيع الخروف بـ 30 ألف أو40 ألف, اليوم اضطر للبيع بـ 15 ألف وهو مبلغ زهيد لا يسد الحاجة ولا يثمن تعبك وجهدك”.
ويعاني الكثير من مربّي المواشي في محافظة ريمة نتيجة قلة انتاجها وانخفاض أسعارها وارتفاع تكلفة تربيتها في ظل شحة الأمطار وجفاف المراعي الطبيعية وارتفاع أسعار الأعلاف في الأسواق، كلها عوامل دفعت العديد منهم لبيع الماشية بأسعار متدنية بدلاً من بقائها وموتها جوعًا بلا أعلاف، ما أدى لفقدان الكثير لمصادر دخلهم الوحيد.
تدهور الزراعة
لا يختلف حال مربّي المواشي كثيرًا عن أحوال المزارعين الذين أخذ منهم الجفاف مأخذهُ، وجعلهم أمام واقع فرض نفسه بلا خيارات أو بدائل تتلافى خسارة أغلبهم لأراضٍ زراعية خصبة تلقفها الإهمال، ليقل مع ذلك إنتاج المحاصيل الزراعية، إضافة إلى ارتفاع تكاليف استزراع الأرض.
المزارع عبده علي، 55 عامًا، من مديرية الجبين، يقول إن تكاليف حراثة الأرض مكلّفة جدا, وتحتاج لجهود شاقة ومضنية, بيد أن مردود الحصاد قليل جدا مقارنة مع الإنتاج الزراعي للأرض في الأعوام السابقة، وذلك نتيجة الجفاف أو ما يسمى “الجَحْر” في اللهجة الريّميّة؛ الأمر الذي أدى من- وجهة نظره – إلى لجوء بعض المزارعين لاستبدال زراعة المحاصيل كالذرة بزراعة القات.
ويعزو عبده علي، استبدال زراعة الذرة بزراعة بالقات، إلى قلة الجهود التي يحتاجها المزارع في زراعة القات مقارنة بالمحاصيل الأخرى، إضافة إلى اعتبار شجرة القات مصدر دخل أعلى، وقادرة على تحمل فترات الجفاف؛ ما يناسب البيئة الريفية المعتمدة على الأمطار الموسمية. بيد أنه يرى ومعه العديد من المزارعين، أن زراعة القات حلاً أمام مشكلة شحة الأمطار وتدني الإنتاج الزراعي.
وعن علاقته بالزراعة وأنشطتها، يردف عبده علي في حديثه لـ”ريمة بوست”: زمان كانت الزراعة في كل الأماكن مزدهرة, والكل كانوا مزارعين ومربّي مواشي, وكانت الأمطار غزيرة والمحاصيل مختلفة ومتنوعة, وتكفي حاجة المزارع من السنة إلى السنة التالية, أما اليوم خسارتك في الأرض أكثر مما تحصل عليه منها.
وبلغت مساحة الأراضي الزراعية التي توقفت عن الإنتاج في اليمن منذ عام 2005م، وحتى عام 2018م، وفق بيانات الإحصاء الزراعي للعام 2018م؛ حوالي 118,112 ألف هكتار، وذلك بالنظر إلى فارق الأراضي المزروعة عام 2005م، والبالغة حوالي 1,202.113 مليون هكتار، مقارنة بالأراضي المزروعة عام 2018م، والتي بلغت حوالي 1.084,001 مليون هكتار.
أزمة الجفاف والغذاء
خلال السنوات الأخيرة يخيم الجفاف في اليمن بما في ذلك المرتفعات الجبلية ما يفاقم من حجم الأزمة المائية، حيث تحتل اليمن مع بعض الدول العربية مرتبة الأشد فقرًا في مخزون المياه، في حين حذرت المنظمات الدولية والخبراء في اليمن من دخولها نفق الفقر المائي الحاد, الأمر الذي يؤدي إلى تزايد معاناة المزارعين.
وبينما يعاني اليمن من الجفاف والتصحر نتيجة المتغيرات المناخية العالمية، وتعتزم فيه دول العالم وضعَ حلول ومعالجات لأزمة الجفاف؛ تغيبُ الحلول في اليمن لمعالجة هذه المشكلة التي تهدّد الأمن الغذائي والأسر الزراعية في الأرياف؛ كونهم الأكثر اعتمادًا على القطاع الزراعي والنباتي في حياتهم المعيشية.
إلى ذلك، لا يخفي حرفيو الزراعة في ريمة، أن بالرغم من الحلول والمعالجات التي كان يتخذها السكان من قبل لمواجهة فترات القحط والجفاف، والمتمثلة في بناء خزانات تجميع مياه الأمطار والسدود، إلا أنها لم تعد حاليًا تلبي احتياجات الأهالي بالشكل الكافي في ظل ارتفاع معدلات السكان وشحة الأمطار، وانعدام مشاريع المياه الحكومية التي لو وجدت لساهمت إلى حد كبير في مواجهة خطر الجفاف، حد تعبيرهم.
في حين تتفاقم وتزداد التحديات أمام المجتمع الريفي نتيجة الجفاف والتغير المناخي، لا يزال الكثير من المزارعين يتمسكون بمهنهم الزراعية وأراضيهم؛ كونها مصدر دخلهم الوحيد، ويحذوهم الأمل باقتراب الفرج، وهو ما تختم به فاطمة حديثها كغيرها من المزارعين.. “ليس لدينا إلّا البقر والكسب “الماعز” مصدر دخلنا وقوتنا, حتى لو اتعبنا الله كريم بتفريجها علينا”.