كانت الساعة تشير إلى الخامسة من مساء يوم الخميس 3 ديسمبر 2020م، حين تحرّك العشريني رائد محمد في رحلة تهريب “نبتة القات” من سوق الرقو، أحد الأسواق الشعبية بمديرية منبّه بمحافظة صعدة اليمنية، إلى داخل أراضي المملكة العربية السعودية، بالسير مشيًا على الأقدام عبر مناطق حدودية جبلية وتضاريس جغرافية صعبة محفوفة بالمخاطر المختلفة، والتي قد تطرأ فجأة دون سابق إنذار.
رائد واحد من الشباب المتمرسين على خوض مغامرات السير في تلك التضاريس كونه تربّى في جغرافيا مشابهة بمديرية الجعفرية بمحافظة ريمة، لذا فقد اختير لمهمة مسح الطريق إلى جانب مهمته الأساسية في حمل ما يقارب 40 كيلو من القات، وإبلاغ “العتّالين” (من يقومون بحمل أكياس القات على ظهورهم) متى ما أصبحت الطريق سالكة للعبور.
القذيفة الأولى
وصل رائد إلى منطقة تسمى بمغربة الجلب، ورأى أن الطريق سالكةً فاتصل بأصدقائه الاثنين (وليد وعيسى) وأخبرهم بأن الوضع مطمئن وعليهم بالعبور، ولكن ما إن أقفل المكالمة واستأنف المسير حتى سقطت قذيفة هاون أمامه، لا تبعد عنه سوى بضعة أمتار. بدا المشهد حينها مُربكًا ومخيفًا لرائد، حد وصفه. صرخات وأنّات شخصان افريقيان ملقيان على الأرض يحاولان الزحف على ظهريهما بعد أن بترت القذيفة رجليهما.
كان الجو مختلطٌ برائحة البارود وذرات الغبار الناتج عن الانفجار، أما رائد فوحدها غريزة البقاء والخوف من المصير المجهول، كانت تهيمن عليه، حيث قفز مسرعًا من جوار المصابين ناجيًا بنفسه من أي قذيفة أو طلقة نارية أخرى قد تطوله من أفراد حرس الحدود السعوديين، وهو ما حدث بالفعل، إذ سقطت خلفه بعدة أمتار قذيفة أخرى، وأصيب بجروح خفيفة لكنها لم تمنعه من مواصلة السير.
أخذ رائد هاتفه ليتصل بالمهرّب (التاجر الذي يقوم بإرسال القات) ليخبره أن الوضع غير آمن وعليه إبلاغ أصدقائه الاثنين الذي خلفه وغيرهم من العتّالين، بأن لا يجازفوا بالعبور، ولكن تغطية الهاتف اللاسلكي لم تكن متوفرة ولم يمسك الخط رغم محاولاته الكثيرة. واصل السير والخوف والقلق يحيطان به من كل الجهات، وما إن اقترب من نقطة الوصول حتى قبض عليه من قبل حرس الحدود السعودي وأُخذ هاتفه المحمول.
بعد ساعة أو أقل أمر أفراد حرس الحدود رائد وبقية الشباب مهربي القات الذين قبض عليهم تلك الليلة، بحمل أكياس القات ووضعها على ظهر العربة العسكرية الخاصة بهم ليتم مصادرتها، ومن ثم تُركوا جميعًا وسُمح لهم بالعودة أدراجهم، كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة من منتصف الليل. عاد رائد من طريق آخر أما الطريق الذي أتى عبره فقد كان مشتعلاً بأصوات القذائف والرصاص.
خيبة العودة
قبيل أذان الفجر وصل رائد إلى السكن الذي يتشاركه مع العديد من الشباب الذين هم من أبناء منطقته بالجعفرية، مرهقًا نفسيًا وجسديًا ومحمّلاً بالخيبة والألم والقلق على مصير من كانوا خلفه. سأل المتواجدين عن مصير وليد وعيسى، فأخبروه أنهما لم يعودا بعد. مرّت دقائق قليلة، حتى وصل عيسى، فأخبرهم أنه تعرض برفقة وليد لقصف بالقذائف من قبل حرس الحدود السعودي.
بعد سقوط إحدى القذائف بالقرب من وليد وعيسى، أصيب وليد بشظايا في ذراعة وظهره، فهرع هاربًا نحو أسفل الجبل بينما هرع رفيقه عيسى نحو الأعلى. طرق جبلية مختلفة لكن جميعها محاطة بالموت. ظن عيسى أن وليد جاء من طريق آخر وواصل المسير متغلبًا على الاصابات الخفيفة، لكن شيئًا لم يحدث. حينها داهم التعب رائد، فأخبر بقية أقرانه أنه سيخلد للنوم فالتعب قد نال منه، وعليهم أن ينتظروا حتى الصباح، إذا لم يعد وليد، فليذهبوا للبحث عنه وتقصي مصيره.
مع الإرهاق والتعب صحى رائد والساعة تشير للعاشرة صباحًا من يوم الجمعة 4 ديسمبر 2020م، هرع يسأل رفاقه: “هل عاد وليد؟”. حين ظل السؤال معلقًا دون إجابة، شعر رائد بالزعل والحنق من رفاقه، لأنهم ناموا ولم يذهبوا للبحث عن وليد من الصباح “قمت حينها وأخبرت الشقيق الأصغر لوليد أني ذاهب للبحث عنه. ذهبت ولحق بي شقيق وليد وشخص آخر”.
صرخات بلا مُجيب
وصل الثلاثة إلى المنطقة الجبلية التي تعرضت الليلة الماضية للقذائف، توزّعوا في المكان للبحث عن وليد، كانوا ينادون باسمه عاليًا، وحده الصدى المتردد بين الجبال والصخور من يعيد لهم ذات الصوت. وأثناء البحث سار رائد جهة الأعلى قليلاً، فرأى “العتلة” (كيس القات)، اقترب منها فوجد آثار دماء على صخرة بالجوار، فواصل البحث بالقرب، فوجد الهاتف الخاص بوليد وعليه آثار شظايا.
شعر رائد بالخوف الشديد وتسارع نبض قلبه، وفجأة رأى شخصًا ملقىً على وجهه كأنه جثة هامدة في مكان جبلي صعب.. “نزلت إلى ذلك المكان وأنا أرتجف من شدّة الخوف، قلبت الشخص لأرى الوجه، فوجدت وليد ميتًا وعلى جسده آثار شظايا عديدة، كنت مصدومًا وخائفًا وغير قادر على فعل شيء، كل الأفكار ضاعت من رأسي، لم يكن بوسعي سوى نداء شقيق وليد ليأتي إليّ، سألني لماذا؟ فقلت لا شيء تعال فحسب”.
ما إن رأى “ح.ي” جثة شقيقه وليد، حتى صرخ وليد وليد وبكى بشدّة. حاول رائد تهدئته قليلاً ولكنه لم ينجح، بدا المشهد مؤثرًا، شقيق صغير لا يتجاوز عمره 18 عامًا يجلس جوار جثة شقيقه المقتول في منطقة جبلية حدودية. اتصل رائد برفاقه ولكن أحدًا لم يرد، ما يزالون نيام، فأخبر شقيق وليد بالبقاء بجوار الجثة برفقة شخصين آخرين لقيهما بالصدفة، وعاد مسرعًا إلى سوق الرقو.
أبلغ رائد رفاقه أن وليد قد مات، والدموع تسبق حديثه. تباكى الشباب الأخرين من هول الخبر الحزين الذي سمعوه، تهافتوا جميعًا للذهاب إلى المكان لنقل الجثة إلى سوق الرقو، ومن ثم أبلغوا والده الذي يسكن في مديرية الجعفرية بالخبر، فأتى إلى صعده وأخذ جثة نجله وليد، ونقلها إلى قريته في عزلة بني سعيد بالجعفرية، ليتم دفنه يوم السبت 5 ديسمبر 2020م.
جريمة خارج إطار القانون
وليد واحد من عشرات الضحايا الشباب من مختلف مناطق محافظة ريمة، الذين قتلوا أثناء تهريب القات إلى السعودية، خصوصًا خلال العامين الأخيرين، حيث تقوم قوات حرس الحدود السعودية بالتعامل مع المهربين بالرصاص الحي والقذائف والألغام الفردية، الأمر الذي تسبب بمقتل المئات من مختلف مناطق اليمن بشكل عام فضلا عن أعداد المصابين، لكن لا تتوفر احصائيات رسمية بذلك.
وخلال عملنا على إعداد التقرير رصدنا أكثر من عشرة أشخاص من مديريات ريمة قتلوا أثناء تهريب القات للسعودية من سوق الرقو الواقع في مديرية منبّة بمحافظة صعدة، إضافة إلى عشرات الجرحى، أخرهم مقتل شابين من مديرية كسمة الأسبوعين الماضيين، وتعرض آخرين لإصابات مختلفة، بينهم الشاب رائد، من مديرية الجعفرية، الذي سرد لنا تفاصيل قصة مقتل صديقه “وليد” العام الماضي.
وبالرغم من تصنيف المملكة العربية السعودية لمادة “القات” ضمن المواد المخدرة عقب إدراجه من قبل منظمة الصحة العالمية عام 1973 ضمن قائمة المواد المخدرة، إلا أنها لم تسنّ قانونًا يسمح لأفراد حرس الحدود باستهداف مهربي القات إلى أراضيها، بالرصاص الحي والقذائف والألغام، وهو الأمر الذي يعتبره محامون، جريمة قتل خارج إطار القانون، وانتهاك لحقوق الإنسان.
وتصل عقوبات تهريب القات إلى السعودية من سنة إلى ثلاث سنوات حسب كمية القات الذي يحمله المهرب على ظهره، في حين تصل عقوبة تهريب كميات كبيرة من القات على سيارات داخل الأراضي السعودية إلى خمس سنوات، وفقًا للقرار الوزاري السعودي 2057 لعام 1404م.
مخاوف تحصد أرواح المهرّبين
في السياق، يرى المحامي (محمد.ك) يمني مقيم في السعودية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن ازدياد استهداف مهربي القات من قبل حرس الحدود السعودي خلال الأعوام الأخيرة، يعود إلى المخاوف الأمنية الناتجة عن العمليات العسكرية التي تندلع بين الحين والأخر على طول الحدود اليمنية السعودية، إذ يتم استهداف مهربي القات وغيرهم من المتسللين، باعتبارهم تهديدات محتملة أو أهداف عسكرية تحاول اختراق الحدود، حد وصفه.
ويضيف في حديثه لـ”ريمة بوست” أن السلطات السعودية تعتبر سوق الرقو بصعدة وكرًا لتجارة البشر والمخدرات والسلاح والقات ومصدر تهديد لأمن حدودها، خصوصًا بعد تعرض بعض أفراد حرس الحدود لعمليات قتل نفذها عصابات ومهربي السلاح والمخدرات من ذوي الجنسيات الأفريقية، ما تسبب بتشديد قيود التسلل واعتبار المناطق الحدودية مناطق حرب.
ويوضح المحامي (محمد.ك) “للأسف غالبية من يقتلون في الحدود هم من اليمنيين مهربي القات، حيث يستغلونهم تجار القات الكبار بالمخاطرة والموت هناك دون الحصول على أدنى حقوق. أما بالنسبة للسلطات السعودية فهي ترى أن تصرفها عمل مشروع لحماية حدودها، ما يجعل هؤلاء الشباب ضحايا دون انصاف من أحد، فتضيع حقوقهم ودمائهم، والأفضل أن يحافظوا على أنفسهم ويمتنعوا من الانخراط في أعمال غير شرعية”.
اضطرار أم استهتار؟
لم يكن قد مرَّ على زواج “وليد. ي” سوى أقل من ستة أشهر حين ذهب للعمل في تهريب القات من منطقة الرقو إلى مناطق محاذية في المملكة العربية السعودية، بعد أن أجبرته ظروف الحياة وثقل احتياجاتها إلى التغاضي عن المخاطر المحدقة به، ليلتقفه الموت بعدها بشظايا قذائف حرس الحدود السعودي، تاركًا خلفه زوجته ووالديه وأشقائه.
بعد ما يقارب عام على مقتل “وليد” أثناء تهريب القات عبر الحدود السعودية، أصيب رائد هذه المرّة بشظايا قذيفة في ظهره ورأسه، فعاد جريحًا إلى صنعاء لتلقي العلاج قبل ما يقارب نصف شهر.. يقول في حديثه لـ”ريمة بوست” إن عدم وجود فرص عمل له وغيره من الشباب يدفعهم للمخاطرة في تهريب القات رغم معرفتهم بالنتائج الكارثية، لكنهم مضطرين من أجل لقمة العيش.
فيما يقول مراد البدوه لـ”ريمة بوست” إنه بالرغم من العائد المادي الذي كان يجنيه من تهريب القات، 400 ر.س لكل حملة يقوم بإيصالها إلى أراضي السعودية، إلا أنه ترك العمل قبل ما يزيد عن عام، حفاظًا على حياته، واصفًا العمل هناك بالرمي إلى الهلاك “الوضع لم يعد مناسبًا للتهريب حاليًا، كنت في السابق أعمل هناك ولم نكن نتعرض للقصف وكان بالنادر تستخدم للرصاص الحي بغرض الترهيب أو التصويب وليس القتل”.
وينصح مراد الشباب الباقيين سواء من محافظة ريمة أو غيرها، بالتفكير كثيرًا قبل الانخراط في تهريب القات إلى السعودية، بعد أن أصبحت طرق التهريب محاطة بالمخاطر المختلفة، فقد يقتل الشاب بقصف سعودي أو على يد عصابات التهريب الأفريقية التي تنتشر بشكل كبير على الحدود السعودية، حيث قتلت تلك العصابات – بحسب رصدنا مؤخرًا – مطلع العام الجاري شخصين من أبناء مديرية مزهر بريمة.
ومع تزايد أعداد القتلى والجرحى في سوق الرقو بصعدة طالب الكثير من المواطنين عبر منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، بوضع حد لما يحدث للشباب في المناطق الحدودية مع السعودية، مناشدين الآباء بثني أبنائهم عن الذهاب إلى الهلاك الحتمي من خلال تهريب القات على الحدود اليمنية السعودية في ظل تصاعد الأعمال القتالية وارتفاع المخاطر المحتملة التي قد تودي بحياتهم هناك.. ومطالبين السلطات اليمنية بمنع العاملين هناك من الانخراط في أعمال التهريب التي تهدد حياتهم.
ورغم كل تلك المخاطر والموت الذي يسرقهم باستمرار، ما يزال في سوق الرقو حتى اليوم العشرات من شباب ريمة، يعملون في تهريب القات إلى الأراضي السعودية، فهل سيتم وضع حلولٍ للحد من انخراط الشباب في أعمال تهريب القات الغير شرعية أم ستظل البطالة وضيق الحال مبررًا لرمي حياتهم في طريق الموت.