بخطوات حذرة عبر طريق محفوفة بالمخاطر، يعود “خليل إبراهيم” ذو الحادية عشر عامًا، كل مساء بعد أن يؤدي صلاة العشاء في المسجد الذي يبعد عن منزله نحو نصف كيلو متر، الواقع في منطقة أبو الضيف بالجبين. لم يستمع “خليل” لتحذيرات أسرته من خطر عودته بمفرده، ولا لنصيحتهم له بالصلاة في المنزل، بل كانت إجابته دائما: “لا. عادي حتى وان مت وأنا أذهب للجامع. أنا في طريق الجنة”.
وفي أحد مساءات فبراير المنصرم، وبينما “خليل” كعادته عائد من المسجد، بالقرب من المنزل، فوجئ بكلب مسعور، انقض عليه حتى طرحه أرضًا، لم يستسلم “خليل” بل تعارك معه وحاول الإمساك بفمه حتى يسلم من عضته، لكن قوته لم تكفي لكبح جماح كلب مفترس، فقد تعرض لعضة بسيطة على صدره باتجاه كتفه الأيمن. وقتها فر الكلب هاربًا، بالتزامن مع مرور أحد سكان المنطقة والذي ساعد “خليل” على الوقوف.
محمد حفظ الله، 25 عامًا، خال الطفل، يروي لـ”ريمة بوست”، تفاصيل الواقعة التي لم يكونوا يتوقعون نهايتها: “تواصل معي الوالد (جد الطفل خليل) وأنا استشرت صيدلاني فقال لي اتأكد من الجرح هل هو عميق وينزف؟”.
يضيف: “تأكدت فقالوا لي انه بسيط وكأنه بمخالب الكلب فأخبرت الصيدلاني بذلك. فقال لي نعقم الجرح وننظفه وان شاء الله يصير كل خير، حينها أخذت المعقمات وأخذت معي قطر الحديد عشان إذا خاف الولد يتناول هذة القطرة ومن ثم سوينا له اللازم من تعقيم وتنظيف”.
بعد مُضيَّ ما يقارب شهر على الإصابة، كان الجرح قد تماثل للشفاء، ولكن بدأت أعراض أخرى تظهر على “خليل”: حمّى والتهابات في الحلق وصعوبة في البلع، حينها أُسعف إلى مستشفى الثلايا بالجبين، وهناك عرض على الطبيب دون إخباره بعضة الكلب، فأجريت له بعض الفحوصات، وأخبرهم الطبيب أنه يعاني من التهابات عادية وليست خطرة، وقُرر له أدوية لذلك.
في اليوم التالي تطورت تلك الأعراض حيث لم يستطع “خليل” تناول الطعام، بالإضافة إلى التقيؤ المستمر، وهو الأمر الذي دفع خاله وجدّه، لإسعافه مرة أخرى إلى ذات المستشفى (الثلايا)، وهناك أخبروا الطبيب بأن “خليل” تعرض لعضة كلب قبل فترة. فأخبرهم الطبيب أنه لا يوجد فحوصات “داء الكلب” في المستشفى، ولكن عليهم أن يسعفوا الطفل إلى مدينة باجل بالحديدة للتأكد والعلاج فقد يكون مصابًا بداء الكلب.
يستطرد “محمد” بأسف: “لم يكن لدينا أي خلفية عن داء الكلب وكنّا نظن أنه إذا أصيب بداء الكلب كانت ستظهر عليه الأعراض مباشرةً” (أي في نفس اليوم الذي تعرض فيه للإصابة).
“عصر اليوم الثالث من ظهور تلك الأعراض، اشتد به المرض، ولم يستطع حتى شرب قطرة ماء أو لقمة واحدة، فانطلقنا بالسيارة لإسعافه إلى مدينة باجل، وفي الطريق كان يتقيأ بشكل ملفت، فلاحظت آثار دم مختلط بالقيء، فزاد القلق على حالته، وحين وصلنا باجل قبل المغرب، أدخلناه مستشفى الإسراء، فقُدمت له أدوية ومغذيات وتحسّنت حالته قليلاً، وأجريت له فحوصات وكانت النتائج سليمة، لكن لم يكن لديهم فحوصات وأدوية خاصة بداء الكلب، فاضطر والدي للسفر إلى صنعاء وأنا عدت إلى ريمة”، يواصل محمد.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف ليلة 30 مارس 2020م، حين وصل الجد “حفظ الله” إلى العاصمة صنعاء، كانت الوجهة الأولى لإنقاذ “خليل” هي مستشفى آزال، ولكن القائمين عليه اعتذروا عن استقبال حالته، فأُخذ إلى المستشفى الجمهوري، وما إن أدخل من البوابة، حتى كان جثة هامدة، هرع الأطباء لإدخاله العناية المركزة والقيام بإنعاشه إلا أنه لم يفق فقد غادر الحياة دون الحصول على دواء ينقذ حياته.
أخذت عينة من الدم، وتأكدتْ إصابته بداء الكلب، حينها حوّل المختصين مسعفي “خليل” لقسم معالجة “داء الكلب” وأعطوهم لقاحات للوقاية من هذا الداء. بعد أن أعتذر عن عدم رغبته في لقاء شقيقته “أم خليل” كون حالتها النفسية متعبة، يختم محمد حديثه عن شعوره الحزين عندما تلقى خبر الوفاة: “الهاتف رن الساعة ٣ فجرا وسمعت والدي يقول لي الحمدلله فانصدمت في تلك اللحظة وأوقعت الهاتف ولم أتمالك نفسي إلا في الصباح وقمت بالاتصال على والدي واستفسرت منه عما حدث”.
في السياق ذاته، يؤكد الدكتور علي الراجحي، مدير مستشفى الثلايا، إنه لا يوجد فحوصات داء الكَلَب في المستشفى، كونها فحوصات خاصة ولا تقدم إلا في مراكز متخصصة، ويشير إن التأخر في إسعاف المصاب بداء الكلب، يؤدي إلى دخوله مرحلة الخطر بحيث لا يفيده اللقاح حينها.
تفشٍ ملحوظٍ لداء الكَلَب
وفي ظل الحرب وتدني الخدمات الصحية، يتفشى داء الكلب بشكل ملحوظ في ريمة خلال العاميين الأخيرين، فقد بلغت حالات الإصابة بداء الكلب في مديريات محافظة ريمة منذ بداية هذا العام 2020م حتى اليوم، إلى 20 حالة بينها حالتي وفاة، في حين سجلت في العام المنصرم 2019م، 15 حالة إصابة بينها حالة وفاة، وفقا لخالد فرحان مسؤول عمليات مكتب الصحة العامة والسكان.
ويضيف فرحان لـ”ريمة بوست”، إن حالتي الوفاة لهذا العام هي من الأطفال، في حين تنوّعت حالات الإصابة بين الأطفال والنساء، بمختلف مناطق ريمة. كون تلك الفئات هل الأكثر عرضة لهجمات الكلاب المسعورة، وهو ما يؤكده المواطن ثابت حيدر، 40 عامًا، إذ تعرضت زوجته، لعضة كلب مسعور بعد أن هاجمها فجأة وهي بجانب منزلها، في يناير الماضي بالجعفرية، وقد تركت تلك الحادثة أثرًا سيئًا في نفسها، حد قول الزوج.
وكانت قد كشفت وزارة الصحة بصنعاء، في أغسطس 2019م، عن تسجيل 50 حالة وفاة نتيجة داء الكلب وتسعة آلاف و498 حالة إصابة بعضات الكلاب خلال سبعة أشهر في العام 2019، وهي مجمل الحالات التي وصلت إلى المرافق الصحية، في حين تقدر الوزارة في تقرير حديث لها، العدد الفعلي للضحايا، يفوق ذلك بأربعة أضعاف.
رحلة البحث عن الدواء
نتيجة للانتشار الملحوظ لداء الكلب يتشكّل لدى المواطن في معظم قرى ومناطق المحافظة هاجس الخوف من الإصابة به، خصوصًا مع انعدام المصل الخاص بعلاج المصابين وعدم توفره في المراكز الصحية في المديريات، إذ يضطرون للسفر إلى مدينة الحديدة لإسعاف مصابيهم، ما قد يعرضهم لخطر الوفاة بسبب التأخير، بالإضافة إلى مضاعفة معاناتهم المادية جرّاء ارتفاع سعر المصل الخاص بداء الكلب، وانعدامه في بعض الأحيان.
عبد الوهاب يوسف،41 عاما، مواطن، يقول لـ”ريمة بوست”: “في يناير الماضي تعرض ابني لعضة كلب مسعور، ولم يكن العلاج متوفر في المراكز الصحية، فاضطررنا للسفر إلى مدينة الحديدة لعلاجه، وقد سافرت برفقة ستة مصابين آخرين (أطفال ونساء) تعرضوا لعضات من ذات الكلب المسعور الذي عض ابني في ذات اليوم، فكانت تكاليف السفر والدواء مرتفعة”.
في حين يوضح الدكتور طلال الجبري مدير مكتب الصحة بريمة، إن وزارة الصحة لا تصرف الأمصال الخاصة بمعالجة داء الكلب إلا لوحدات معتمدة من قبلها، ولا يوجد وحدة معتمدة لمعالجة داء الكلب في ريمة سوى وحدة مكافحة داء الكلب في مستشفى الثلايا بالجبين، وحتى الأن لم تتوسع الوزارة في فتح وحدات أخرى في المستشفيات والمراكز الصحية في بقية مديريات المحافظة.
ويؤكد في حديث لـ”ريمة بوست”، أن مكتب الصحة قد قام بالرفع لوزارة الصحة لاعتماد وحدات لمعالجة داء الكلب في مستشفى الميثاق ببلاد الطعام ومستشفى المسجدين بالسلفية، وما يزال يتابع ذلك كمرحلة أولى، ثم يليها اعتماد وحدات أخرى في المراكز الصحية الرئيسية في مديريات كسمة والجعفرية ومزهر، وهو الأمر الذي يتوقع أن يتم إنجازه قبل نهاية العام، مرجعًا تأخر ذلك إلى الإجراءات التي فرضتها جائحة كورونا، حد قوله.
خطر الكلاب الضالة
وبالرغم من أن مناطق ريمة ريفية وتبدو شبه خالية من الكلاب الضالة إلا أنه خلال العاميين الأخيريين بدأت بالانتشار في بعض المناطق خصوصا تلك القريبة من الأسواق أو بالقرب من التجمعات السكانية الكثيفة كـ مركز المحافظة بالجبين ومراكز المديريات، وهو الأمر الذي أثار مخاوف الأهالي من تعرض أطفالهم لعضات تلك الكلاب المسعورة.
يقول أنور القليصي، 35 عامًا، وهو مواطن في بلاد الطعام، إن الكلاب انتشرت بشكل كبير في بداية العام الجاري وهاجمت عدة أشخاص، فقام بعض الأهالي بقتل بعضها أو ملاحقتها وإبعادها باتجاه مناطق خالية من السكان.
في حين، عُقد في مارس المنصرم 2020م بمديرية الجبين، اجتماع برئاسة وكيل المحافظة محمد مراد، لمناقشة آلية تنفيذ حملة لمكافحة الكلاب الضالة على مرحلتين تشمل مركز المحافظة ومراكز المديريات.
وعن ذات الجزئية، يقول صالح الكسمي مدير صندوق النظافة والتحسين، في تصريح لـ”ريمة بوست”، إن المكتب نفذ حملة لمكافحة الكلاب الضالة في شهر ابريل الماضي بالجبين مركز المحافظة، غير أن المرحلة الثانية التي تستهدف مراكز المديريات لم تنفذ بعد، إذ يشير أنه على استعداد لتنفيذها لكنه يتمنّى أن يتعاون معه مكتبي الأشغال العامة والصحة والسكان بالمحافظة.