بقلق وحذر واضحيين، وقفت الطفلة نهى السلطان ذات الحادي عشر ربيعا، بجانب بئر المحروم في منطقة “الرييم” بمديرية مزهر، وعلى رأسها كشاف إضاءة وفي يدها جالون فارغ سعة (20 لتر)، تنتظر مجيء إحدى قريناتها أو أحد أطفال القرية، لتنزل معهم عبر منحدرات خطرة لورود الماء من قاع البئر الذي يصل عمقه ما يقارب 100 متر.
تقول لـ “ريمة بوست”: “انا افتجع انزل لوحدي، لأنه العقاب عكر وفي القاع ظلام، لكن عادو اشّكل لما حد يناوسني”، (أخاف النزول بمفردي، لأن المنحدرات صعبة وخطرة وقاع البئر مظلم. لكن إلى حد ما، لا أخاف لما في حد معي يؤانسني). ظلّت تنتظر حتى أتى مجموعة من الأطفال والنساء لورود الماء، فنزلت برفقتهم لتعبئة دبة الماء خاصتها.
في قاع البئر يبدو الظلام مخيفا، يضطر ورّاد الماء لاستخدام كشافات إضاءة يدوية، ثم يغترفون الماء إلى جالوناتهم باستخدام علب معدنية أو بلاستيكية، وبعد الانتهاء، تحمل البنات والنساء الجالونات _أي ما تسمى بالدبّات في اللهجة الدارجة_ على رؤوسهن، ويحملها الأولاد على أكتافهم، ويصعدون جميعا أو فرادى بحذر شديد خوفا من أن تنزلق أقدامهم من المنحدرات الضيقة والملتوية فيسقطون إلى أسفل البئر.
صعوبات ومخاطر شتى تتحملها “نهى” من أجل الحصول على 20 لترِ من الماء الصالح للشرب، تروي به ضمأ أسرتها التي تعيش في القرية الواقعة أعلى الجبل المطل على البئر، والتي تبعد عنه ما يقارب كيلو متر، وفقا للأهالي.
معاناة مستمرة
“نهى” واحدة من عشرات الأطفال والنساء الذين يتشاركون يوميا معاناة البحث عن مياه الشرب، إذ يسيرون مشيا على الأقدام من قراهم المعلقة على الجبال، لمسافات متفاوتة وعبر طرق جبلية وعرة، من أجل الوصول إلى بئر المحروم، التي تعتبر المصدر الوحيد لمياه الشرب لعدد من القرى بمنطقة الرُّييم، وهو الأمر الذي جعل الأهالي يتحملون المشقة والمعاناة منذ سنوات عديدة.
يقول منير السلطان، أحد أبناء المنطقة، أن السكان يعتمدون على هذه البئر كمصدر وحيد لمياه الشرب في المنطقة، وأنه لا يوجد لهم مصدرا للماء سوى سدود وبرك مائية صغيرة ومفتوحة يتم فيها تجميع مياه الأمطار في المواسم الماطرة، واستخدامها فيما بعد للاستحمام وغسل الملابس وسقي الحيوانات، وهي غير صالحة للشرب.
ويضيف منير لـ”ريمة بوست”، أنه رغم وفرة المياه في البئر وغزارته في فصول السنة إلا أنه يجف قليلا في فصل الشتاء، الأمر الذي يفاقم معاناة الأهالي، حيث يضطرون للوقوف والانتظار في طابور طويل من أجل الحصول على ماء للشرب، وأنه يتم تخصيص جالون واحد فقط سعة ٢٠ لتر لكل أسرة نظرا لشحة الماء. ويشير أنه في حال توفر خزان كبير لحفظ الماء سيغطي احتياجات الأهالي طول السنة.
أخطار عديدة تثير قلق السكان
رغم الأهمية التي تلعبها بئر المحروم من خلال الاعتماد عليها في الحصول على مياه الشرب إلا أنها وفقا لسكان محليون، تشكّل خطرا على حياة الكثيرين خصوصًا أن غالبية من يتحملون مسؤولية نقل الماء منه هم من فئتي النساء والأطفال. ويؤكد المواطن عبد الفتاح مقبول، أن خلال السنوات الماضية سقط في هذه البئر عدة أشخاص من فئات عمرية مختلفة، فالبعض منهم فارقوا الحياة، وآخرين ألحقت بهم إصابات بالغة. ويصف منير سلطان، أحد أبناء المنطقة، النزول إلى قاع البئر مغامرة ومخاطرة شديدة، ضحيتها الأطفال والنساء.
في السياق ذاته يقول عبدالرقيب محمود ، أن خطر البئر لا يكمن في صعوبة النزول فيه فقط، بل في نظافة الماء أيضا، إذ أن البئر مفتوحة وعند هطول الأمطار تُغسل الدرج والمنحدرات التي ينزل من خلالها ورّاد الماء وهم يرتدون أحذيتهم، إلى داخلها فتختلط بمائه، إضافة إلى استخدام الأوعية المعدنية الصدئة لاغتراف الماء، وهو الأمر الذي يجعلها ملوثة وغير صحية وعرضة لنشوء ونقل الأمراض والأوبئة.
ويشير عبدالرقيب أنه مع انتشار فيروس كورونا كوفيد19 في بعض المحافظات اليمنية، يخشى الأهالي من أن ينتقل إلى تلك المنطقة ويصل إلى البئر ليصبح بؤرة للفيروس، خاصة أن الكثير من الأشخاص يرتادوه كل يوم دون القيام بأي من إجراءات السلامة، ويناشد الأهالي الجهات المختصة ومنظمات المجتمع المدني وفاعلي الخير من أجل وضع حلِ لهذه البئر التي ليس لهم سواها مصدرا لمياه الشرب، وتوفير سقف يغطي البئر وحمايته من التلوث، ومنظومة طاقة شمسية ودينامو لرفع الماء ومواسير وخزان لحفظ المياه، من أجل التخفيف من معاناتهم والحد من المخاطر الصحية التي قد تطالهم بسبب النزول الى قاع البئر، وتلوث مياه الشرب فيه.
الطفلة “نهى” أيضا، كغيرها من أهالي وأطفال القرية، تشكو مخاوفها حين تذهب لنقل الماء كل يوم، بدءً من وعورة الطريق الجبلي، وانتهاءً بالنزول إلى قاع البئر المخيف. إذ تختم حديثها على أمل أن تجد من يخفف عنها المعاناة التي تتكبدها منذ أن عرفت نفسها، تقول: “من مع عرفت نفسي واحنا نحمل الماء من البئر. لكنه يتعبنا قوي لو كان في خزان فوق البئر احسن من النزله الى داخله”.