في مجتمع ريمة تبرز روعة وجمال مبدأ التكافل المجتمعي في عملية البناء والتنمية، بل وتتخذ طابعاً مقدسا لدى الأفراد، وتتجلى أهمية الجماعة فيما يقومون به بتعاونهم وتكاتفهم ومساندة بعضهم في أغلب الأعمال، حتى أصبحت (العونة) عادة مجتمعية وموروثٌ أساسي يربطهم ببعض.
سواعدٌ تشدُ بعضها بعض
منذ القِدم لم يركن أبناء ريمة على غيرهم في تنمية مجتمعهم، وليقينهم أن لا خير في انتظار العون والمساعدة من الغريب، وأنه لا تُبني بلاد إلا بسواعد ابنائها، فبعد نجاح ثورة سبتمبر 1962م، أنطلق الكثير من شباب ريمة لتعبيد طرقهم الوعرة، فشكلوا تعاونيات شبابية تسعى إلى شق طُرق تربط محافظة ريمة ببقية المحافظات المجاورة لها، وبرغم وعورة التضاريس وكل الصعوبات التي مروا بها، إلا أنهم نجحوا بسواعدهم المجردة أن يشقوا ويعبدوا طريق على امتداد يُقدر بـ 100 كم.
يحدثنا محمد مهدي إبراهيم (78عام) الذي كان أحد هؤلاء الشباب ورئيس هذه التعاونية التي بفضلها رُبطت ريمة بالمحافظات الأخرى قائلاً:” كانت محافظة ريمة معزولةٌ عن العالم، وكان السفر والتنقل بين محافظة ريمة والمحافظات المجاورة لها خصوصاً محافظة الحديدة يستغرق أكثر من يومٍ ونصف مشياً على الأقدام، وهذا كان مرهقاً لنا، وبطبيعة تضاريسها الوعرة توفى المئات من أفراد المجتمع لأن محافظتنا كانت تفتقر لأبسط الخدمات الصحية، خصوصاً عندما تفشى وباء الحصبة، فكان لا يستطيع أبناء المحافظة أن يسعفوا المرضى بسبب صعوبة ذلك وبُعد المسافة عن أقرب مركز صحي أو مستشفى، فكان إذا مرض أحدهم ولم يستطع الطب الطبيعي وطب الأعشاب أن يعالجهُ، يضطر اهلهُ إلى انتظار موته غير قادرين على فعل شيء لأجله.
ويضيف في حديثه لـ “ريمة بوست”: وبعد أن عدنا من صنعاء أنا وبعض الشباب تحديداً بعد فك حصار السبعين 1963م، سعينا إلى قصد “العونة” من المواطنين لشق وتعبيد الطريق الرابط بمحافظة الحديدة، فشكلنا تعاونية وكانت استجابة المواطنين كبيرة، فتبنوا الفكرة وساعدوا كثيراً، فكان كل فرد يقدم ما يقدر عليه والبعض الآخر يعمل معنا في الحفر و نقل الحجارة ورصف الطريق، وبرغم كل الصعوبات التي واجهتنا وبعد أكثر من ثلاث سنوات من العمل المتواصل بجهدنا الذاتي وبسواعدنا المجردة، نجحنا بربط المحافظتين فكان الفضل لله أولاً ولأبناء المحافظة ثانياً.
والإعانة أو العونة كما ينطقها أبناء ريمة، تتمثل في مساعدة بعضهم في أغلب أمور دنياهم، فعندما يريد شخصٌ ما بناء منزل خصوصاً إذا كان مزارعاً معدماً ترى الناس يسعون إلى مساعدته وعونه، ويجود كل شخصٍ من أفراد المجتمع بما يقدر عليه عن طيب خاطر، ويهُب الشباب ومن لم يقدر على العطاء إلى العمل في البناء وكلٌ فيما يعرف.
في الأفراح والأتراح
محمد قايد(55عام) مزارع من أبناء مديرية الجعفرية يخبرنا قائلاً: ” قبل عشر سنوات تقريباً تهدم منزلي بسبب الأمطار، كان منزل قديم ومهترئ، وبعد أن تهدم المنزل لم أجد مكاناً للعيش فيه مع زوجتي وأطفالي السبعة، سكنت مع احد الجيران شهراً كاملاً، ولكن لا يستطيع الإنسان أن يعيش براحته إلا في بيته، قصدت العونة من الجيران ومن أبناء القرية لبناء منزل لي، فكانت استجابة الناس كبيره ويُشكرون عليها فقد ساعدوني كثيراً، فمنهم من اعطاني الخشب ومنهم من ساعد في البناء ونقل الأحجار، فالعونة هي الفعل الأسمى الذي يجسد المعنى الحقيقي لمقولة ‘الناس للناس”.
في المناسبات المجتمعية أيضا تتجلى مبادئ وقيم التكاتف الاجتماعي في أبهى صورها. فإذا أراد أحدهم إقامة حفل زفاف، يذهب إلى جيرانه وأفراد مجتمعة ويطرق أبوابهم ويناديهم للعونة، فيُسارعوا إلى تلبية الدعوة ويبذل الجميع ما يستطيعوا، فالنساء تجلب الحطب والماء، منهن من تتكفل بالخبز، أما الرجال فالذي يُجيد الطبخ يذهب للمساعدة في إعداد الطعام، والبعض منهم يتكفل بتنظيم المدعوين والضيوف، فعندما ترى كُلاّ منهم يعمل بما تكفل به ومدى تنظيم عملهم وتكاتفهم، تكتمل الصورة الجميلة لأبناء ريمة أمام عينيك.
محمد المنصوري (50عام) من أبناء مديرية كسمة والذي يعمل طباخاً في في أحد المطاعم في المملكة العربية السعودية يقول: “انا قد تنقلت وعملت في أكثر محافظات الجمهورية اليمنية، لكنني لم أجد روح التعاون والتكاتف بين أبناء هذه المحافظات، فكل شخص في مجتمعهم لا يهم إلا نفسه وعائلته، فالحمد لله هذه نعمةٌ مَن الله بها علينا نحن ابناء ريمة”.
ولا تقتصر العونة في ريف ريمة على المناسبات وبناء المنازل، وشق الطرقات، بل تمتد لتشمل كل شيء تقريباً، فعندما يكون أحدهم في مأزق ما، يتهافت الجميع من أبناء ليمدوا له يد العون والمساعدة، ويقفوا معه حتى يتخلص من المأزق الذي كان فيه، ولا يتخلوا عنه مهما كانت مصيبته.
رمضان فرصة للعونة والتكافل
يوسف حسن (55عام) من أبناء مديرية الجعفرية، أثناء عمله أرغمته ظروفهُ إلى استدانة مبلغ مالي كبير لم يستطع تسديده، ولم يصبر عليه الدائن بضعة أشهر ليحاول جمع هذا المبلغ، فتعرض للسجن. ومُنذ بداية شهر رمضان أطلق بعض شباب مديرية الجعفرية مبادرة ليقصدوا العونة، ويجمعوا المبلغ حتى يستطيع أن يعود “يوسف حسن” الى بيته وأهله ومجتمعه فهم لم يستطيعوا أن يجلسوا في بيوتهم وهناك فرداً من أبناء قريتهم في السجن.
يقول منصور أحمد مسعد، أحد أبناء المنطقة ومؤسس جمعية سحائب الخير، أن المبادرة التي أطلقها مع مجموعة من الشباب عبر تطبيق “واتس أب”، تسعى إلى جمع مبلغ 10 مليون ريال اي ما يُعادل (19000 دولار) خلال شهر رمضان، لكي يتم تسديد ديون ‘يوسف حسن’ أو حتى تخفيفها لكي يستطيع أن يخرج من السجن ولو بكفالة.
ويضيف في حديثه لـ”ريمة بوست”، أنه رغم التفاعل الكبير الذي لاقته المبادرة من المواطنين بشكل عام، فقد أثرت أزمة فيروس كورونا على تفاعل المغتربين في الخارج من أبناء المنطقة بسبب تعطل وتوقف أعمالهم نتيجة الحجر المنزلي.
في السياق ذاته، يقول منصور محمد يوسف المسؤول المالي للجمعية، أنه منذ تأسيسها عام 2013م ، ساعدت أكثر من 500 شخص من ضمنهم المرضى المعسرين ، وساعدت في علاج أكثر من 95 مريض من أبناء ريمة داخل اليمن، إضافة إلى تبنيها سفر وعلاج 7 مرضى بالخارج.
ويوضح منصور محمد يوسف، أنه بعد أن تجمد عمل الجمعية قاموا بعمل حملات تعاونية تكافلية عبر مجموعات على تطبيق “واتس اب” وكانت استجابة المجتمع جيدة، مضيفا أن “ما تم تحقيقه من النجاحات كان بفضل الله اولا وأخيرا ثم بفضل تكاتف وتلاحم الجميع من ابناء المحافظة، وأتمنى منهم المزيد من التكاتف والتلاحم لنكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد”.